وإذا كان ليل الماضي السحيق، كان يدفن في الاحشاء الخوف، وأن انكسار ضوء القمر يغتال، وخيوط شمس الحرية كانت كاذبة، وأن البشر كل البشر كانوا في سبات عميق، كما تشير أحداث هذا العرض، وأن فلول النظام القديم هم الذين يلعبون ذات الأدوار وسوف يظلون يقومون بها طالما أن هناك اغتيالا لوجهات النظر الثورية التي تمتد سوادها المتربص في محاولة جادة ومتكررة ومتجددة لإفساد الرؤي، والبصر والبصيرة يصبحان أملا ينشده المواطن الذي يبحث عن الأمن والامان والحرية ولقمة العيش، في ظل عظمة أمة لها تاريخ عريق مثل مصر!! خبرة ابداعية وأمامنا مجموعة من النماذج البشرية صاغتها خبرة إبداعية اتحدت بين الشاعرة المسرحية المستنيرة وزميلة القلم والالم صفاء البيلي وبين أحد الناشطين المسرحيين والذي أدار هذه الفرقة خلال إنتاج هذا العرض الكاتب علي الغريب الذي اتحدت رؤيته مع قضية من أخطر قضايا مصرنا في الوقت الراهن، البحث عن فجر جديد يولد فيه إنسان جديد مبرأ من كل الخطايا التي طالما ارتكبت في حق هذا الوطن الصامد شجيرات المتأمل دوما لبروغ هذا الفجر من وسط احضان تسجيلات الأمل، وحرية ليست ممنوحة، وإنما مكتسبة بحكم المنطق والقانون الإنساني وحقوق الإنسان. وحين يكون الكون خلاء، وكف الليل توزع أطنان الصمت في محاولة دؤوبة من أعداء الحياة لإطفاء الشفق الملتهب بوجه الافق، فإن الأمر يحتاج إلي وقفات للتأمل: ويصبح السؤال الذي يطرح نفسه: - ماذا نكتب.. كيف نكتب.. ولمن نكتب؟! مواجهة الأفكار فإذا كان المسرح هو الفن الوحيد الذي يواجه الفرد بصورة ذاته ويجبره علي مواجهة أفكاره ومشاعره مواجهة حية ومباشرة وهذا ما حاول كل من صفاءالبيلي وعلي الغريب، حيث وضحا التعارض لوجهات النظر - علي الصراع- وحل الصراع من خلال الأحداث الفكرية والاجتماعية، لكن المباشرة كانت زائدة جدا في جرعتها، لأن النص لم يلتزم أصحابه بوجهة نظر واحدة، وإنما توسلا بالحوار المباشر والأغاني - الريستاتين - ومحاولة مسخرة بعض الرموز في محاولة اضحاكية قد لا يعتنقها الجو العام للنص، فأصبح كل من يتبني وجهة نظر من أصحاب العمل تماما كالثوب الممزق الذي لا ينتمي إلي أي هيكلة تحدد هويته، جلباب ريفي مصري وغطاء رأس ينحشر فيهما شاب يحاول أن يكون ريفيا وهو متأمرك من حيث الشعر المرسل واللكنة الريفية التي يحاول أن يتقنها وتفشل كل محاولاته في الاتقان، كما تفشل كل خطوط الالتقاء مع لب القضية، وفي مواجهة هذا الريفي الزائف من حيث الشكل، وهو خطأ إخراجي طبعا في المقام الأول، يقف أمامنا كل ما يمكن أن نطلق عليه نماذج شائهة لم تزل تأمل في الالتفاف علي ثورة يناير 2011 وإن كانت تحمل في اعطافها كل المبادئ الهدامة، ومع هذا المناخ الذي يبثه الشتات السياسي المعاش يقدم لنا النص نموذجا لرجل الغرب الذي يفكر لنا، أو يتحدانا، أو يحركنا مثل الدمي، أو يمتلك سماوات الإبداع والأفكار والوطنية، ويعيد صنع المواطن المصري حسب المواصفات الاستعمارية والاستبدادية، لكن في شكل منقوص دراميا لا يقوم علي البعد الدرامي أو النفسي للدرامات التي تحمل في اعطافها جوا سياسيا مطروحا علي الساحة الآن. ولذلك كنا في صالة مسرح- الهوسابير - نتابع العمل المسرحي دون أن نحتفظ بحرية الاتفاق أو الاختلاف مع ما نري وما نسمع، ولا نقول كان لابد لأصحاب التجربة - كتابيا - أن يمارسا أولا حرية التصور، أو.. المزاوجة بين النظرات المختلفة للواقع نشدانا للحقيقة، وبحثا عن كل ما يرفع الإنسان، يرفع من شأنه، ويرتقي به، لأنه - أي العرض - ببساطة يتعرض للحرية، وهي البسمة التي لا غني عنها للمسرح - كاتبا وفنانا ومتفرجا - إن الحرية هي الوسيلة الفعالة التي تضمن استمرار الحوار داخل نفس الإنسان وعقله، وصولا إلي مستقبل أفضل، يقوم علي الإنسان الأفضل - الإنسان الذي تضيء جوانب نفسه بنور المعرفة والخير والحب والجمال، وهو ما حاول العرض أن يصل إلي تحقيق نسبة ليست مرضية للملتقي. التمثيل لقد حاول كل من أسامة نبيل في دور البائع، محمد النجار في دور نزيه الذي لم يكن نزيها وكان ينقصه الوعي بالدور وليس التمثيل من الخارج، محمد عبدالفتاح في دور ممدوح الذي يمثل نموذجا من فلول النظام القديم وقد حاول أن يكون صادقا وعاطف جاد في دور مجدي، كانت حركة كل منهما ثقيلة علي المسرح والأداء استظرافي قناعة منهما انهما يقومان بأدوار كوميدية، ويأتي الممثل الجيد ناصر عبدالحفيظ في دور حماد ليضيع فرصة تألقه بتقليد بعض الممثلين الهزليين المرموقين، وأما عبدالناصر ربيع في دور فؤاد، فكان ثوريا وكان مقنعاً، وكان محملا بالغيرة جعلته نموذجا واعيا أمام المتلقي، وعادل عبدالنبي في دور البارمان، وفتحي مرزوق في دور ركبة، سنيدة كل العصور في كل العروض. الديكور لم نجد للتشكيلي مجدي مرزوق بصمة واضحة للبعد التشكيلي، إذ اعتمد علي الموجودات بمسرح الهوسابير أو هكذا بدا الأمر أمامنا، فلا ديكور، ولا تشكيل نحتي، وإنما هيكلة تصلح لأي عرض في أي مكان. الموسيقي والألحان نحن أمام اسم ملحن جيد، هو الفنان محمد عزت الذي اتكأ علي كلمات جيدة صاغتها صفاء البيلي وغنتها فرقة البنادرة وقد وزع الموسيقي جمال رشاد فكانت الأغاني والألحان إحدي البصمات الجيدة في هذا العرض. تصميم وتدريب الاستعراضات لم نلحظ أن هناك رقصات واستعراضات بالمعني العلمي أو الفني، إنما وجدنا أداء جسديا لشخصيات تتحرك مسرعة نحو مكان الجلوس في مقدمة خشبة المسرح، وإذن فالاستعراضات غائبة وسيد البنهاوي باع الترام للفرقة. الإخراج لقد حاول خليل تمام، وهو أحد الدارسين لتقنيات المسرح علي يدي من خلال الدورة التخصصية لنقابة المهن التمثيلية فقد كنت امنّي نفسي بأن أري ثمرة ما غرسناه في نفوس ووجدانات أبنائنا في هذه المهنة، ومنهم خليل تمام الذي غاب عنه الكثير مما درسه، فأتي إخراجه للنص «توليفا» بين الكلمة وبين المعطي التقني واختيار عناصره، ولم يذل الأمر يحتاج إلي مزيد من إعطاء الفرص لجيل خليل تمام لكي يصنعوا عرضا مسرحيا متماسكا ومبهرا، لكن من خلال رؤية متميزة تخص المخرج وحده وإن كان مسرحه فقيرا، انني أقدم التحية للمخرج ولاصحاب التجربة كتابة ولطاقم التجسيد، فإنها جرأة أن يتم إنتاج هذا العرض بالجهود الذاتية وارجو ألا أكون قد قسوت علي أحد لأنني أحب أن أكون صادقا مع الخلصاء لهذه المهنة.