لا أتفق كثيرا مع من يرون أن حصاد الدراما الرمضانية هذا العام كان هزيلا مقارنة بالأعوام السابقة. فعلي الرغم من التراجع الشديد من حيث الكم، فإن الأعمال المتميزة زادت نسبتها إلي حد كبير. بالتأكيد لم يكن الوقت كافيا لكي تعبر المسلسلات عن مرحلة جديدة نعيشها، فمعظم الأعمال تمت كتابتها قبل 25 يناير. كما أن النسبة الغالبة منها تم التحضير لها، وربما بدأ التصوير أيضا قبل أن تتبلور ملامح واقعنا الجديد، بل إن هذه الملامح لم تتبلور بعد حتي الآن. ولكن الشيء المؤكد أن ثمة تعديلات أجريت علي بعض السيناريوهات حتي تتناسب مع المرحلة. والغريب أن هذه التعديلات تمت بطريقة مقبولة وسلسة وغير مقحمة علي عكس المعتاد، كما كانت أفكار ومعالجات بعض هذه الأعمال تتميز بالجرأة والنقد الاجتماعي اللاذع والجريء للواقع حيث كان امتداد الخطوط الدرامية لا يمكن أن يؤدي إلا لثورة، مهما اختلفت أشكالها أو توقعاتنا لها. بداية لابد أن نستثني أعمالا لا تستحق النقد بل ولا التعليق أو المشاهدة أصلا علي الرغم مما تحظي به من نجاح بفعل عناصر الإبهار وتوابل الجذب والابتذال التي تتلاقي مع رغبات جموع المشاهدين الذين يعانون من جميع أنواع الحرمان. ويأتي في مقدمة هذه الأعمال إبتذاليات «سمارة» و«كيد النسا»، بكل ما تضمنته من لحم وشحم. ويدخل في إطار الهزليات البلهاء مسلسل الزناتي مجاهد في استمرار للتأكيد علي نظرية الفاشل مستمر مع النجم الهابط سامح حسين. وتحت نفس التصنيف يندرج شيء يحمل عنوان «نونة المأذونة» الذي تتبدي سخافته وبلاهته من العنوان . بين البلاهة والابتذال تعبر حنان ترك بأدائها في هذا المسلسل عن فهمها الرديء للفن والأداء الكوميدي باعتباره نوعا من التهريج والاستظراف وليس حالة تصنعها المواقف والمعايشة في الأداء. وهو أسلوب يتطابق تماما مع ما قدمته زميلتها هند صبري في العام الماضي بمسلسل «عايزة أتجوز» الذي حظي بجوائز وإشادات نقدية جعلت صناعه وزملائهم يظنون أن هكذا تكون الكوميديا. وهي كارثة يصنعها بعض الزملاء النقاد وتشارك فيها بعض الجمعيات التي تمنح الجوائز لمن يقبل أن يحضر حفلاتها الختامية من النجوم حتي تحظي بالترويج والدعم. وهي ظاهرة أعتقد أنها في طريقها إلي زوال بعد أن أصبح الحصول علي دعم مادي لمهرجان أشبه باصطياد سمكة قرش من بانيو فارغ. لم تضن علينا دراما رمضان هذا العام بمسلسلات الإثارة المصطنعة والادعاء الأجوف فكان موعدنا مع العذاب للعام الثالث علي غير توالي مع «الدالي 3» بكل ما يتضمنه من ادعاء ممجوج وهراء أجوف متذرعا بسرد دراما شخصية رجل أعمال تفاعل مع الأنظمة السابقة بتلميحات فجة ومكررة عن الفساد وصراعات رجال الأعمال. أما مسلسل «الريان» الذي يلعب علي نفس الوتر فيمكن تصنيفه في منطقة البين بين، حيث تكاد تتعادل لديه عناصر الجودة مع نقاط الضعف . فالتوغل داخل الحياة الشخصية لأسرة الريان لا يخلو من صدق وواقعية . كما يتميز الحوار ورسم المواقف بالعفوية والتمكن . ولكن علي الجانب الآخر هناك إغراق في التفاصيل غير المفيدة وتشتت في الرؤية التي ربما تكون ناتجة عن رغبة في تجنب إغضاب صاحب الشخصية الحقيقية . منطقة الوسط البارد علي نفس المستوي المتوسط من الجودة يأتي «شارع عبدالعزيز» الذي تميزت كتابته بالسلاسة وإخراجه بالحركة والتعبير . كما تميز أيضا بإجادة اختيار الممثل وتوظيف قدراته بوعي وانضباط . ولكن تأتي المبالغة في إضفاء ملامح النجومية والبطولة المصطنعة والمبالغ فيها لبطله لتطيح بكل الجهود المبذولة من أجل منحه المصداقية . فالسيد عبد العزيز الذي يؤدي دوره عمرو سعد لم تتوقف شخصية نسائية واحدة عن مغازلته أو التودد له أو غوايته . فالاختبارات التي تعرض لها حضرته ربما تتجاوز ما تعرض له سيدنا يوسف عليه السلام . بل إن الإشادة بجاذبيته ووسامته فاقت أي حد لدرجة أن تصفه ميمي جمال لابنتها علا غانم بنص الحوار" "هو دا حتة العيل الصغير .. دا لو بصت له بت بس بعينيه الحلوين دول تخلف تؤم". في مقدمة المسلسلات الجيدة يأتي مسلسل «خاتم سليمان» الذي يتميز بأسلوبية رائعة وبتمكن شديد في توظيف مختلف العناصر الفنية بروح متجانسة ومتفهمة لطبيعة الفكرة بداية من أغنية التترات بكلماتها الموحية بصوت ريهام عبدالحكيم القادر علي أن يحلق بالمشاهد إلي أجواء الخيال والحواديت . وهو عالم يمتزج بمهارة مع الواقع الغريب الذي عشناه وتعايشنا مع غرائبه وتناقضاته لسنوات وسنوات، في ظل نظام صنع فينا ما شاء ولكنه لم يتمكن من قتل نفوس شريفة وقوية مثل الدكتور سليمان الطبيب الشريف في زمن غاب فيه الشرف وابتذلت كل المهن. أدي الدور خالد الصاوي ببراعة وتفهم عميق لطبيعتها ومحنتها ومأساتها في ذروة تليفزيونية جديدة بعد إبداعه في «أهل كايرو» و«قانون المراغي». في ذكري خالد سعيد يأتي «المواطن إكس» أيضا كأحد النماذج الجادة والمتقدمة للدراما التليفزيونية سواء في أسلوب بنائه الدرامي أوفي تميز إيقاعه وإحكام بنائه البصري. وهو مسلسل يأتي عرضه كنتاج خالص لزمن ما بعد ثورة 25 يناير. فأحداثه تعيد إلي الذاكرة واقعة مقتل خالد سعيد التي كانت من أكثر الأحداث تأثيرا في التمهيد لتفجر شرارة الثورة . ويأتي أسلوب سرد الأحداث كفلاش باك بعد وقوع جريمة القتل، كحيلة درامية بارعة للخوض داخل عالم من التكشفات التي تفضح واقعا من القهر والظلم والفساد. وهو الموضوع الحقيقي للمأساة والذي لم يكن الحادث سوي ذروة كاشفة ومضيئة تفتح الباب للدخول إليه. والحقيقة أن السيناريو لمحمد ناير هو كشف أيضا عن موهبة درامية جديدة. أما عثمان أبو لبن فكان مفاجأة مدهشة بالنسبة لي بعد أن كانت تجاربة السينمائية السابقة لا تبشر بأي خير. علي النقيض تماما يأتي خالد الحجر في تجربة «دوران شبرا» ليؤكد أصالة أسلوبه وإخلاصه لقضايا وموضوعات عوالم المهمشين والمنسحقين. وعلي الرغم من تشعب الخطوط وتعدد الشخصيات، إلا أن الكاتب الجديد عمرو الدالي يتمكن من الإمساك بموضوعه والحفاظ علي خطوطه مع الدقة في رسم شخصياته والتي جاءت سلوكياتها متسقة مع دوافعها وخلفياتها. لا يعيب المسلسل سوي بعض مناطق الترهل والثرثرة والتي أفلتت فيها من الكاتب روح الفكرة والمضمون الرائع الذي كان في حاجة لمزيد من التدعيم عن هذا الحي العظيم الرائع الذي يعبر في كل لحظة من لحظاته وفي كل حارة من حواريه عن هذا الشعب الجميل الطيب المتسامح الذي لا تعدو مظاهر التعصب والعنف فيه إلا كأمور سطحية ومصطنعة. يتميز المسلسل بصورة درامية وعميقة التأثير بأضوائها وظلالها فضلا عن أداء تمثيلي متميز لمعظم الفنانين. وإن كانت تجدر الإشارة إلي هيثم أحمد زكي بوجه خاص الذي استطاع أن يحقق طفرة غير متوقعة في أدائه التمثيلي . فأداء هيثم في فيلميه السابقين لم يكشف حتي عن بذرة موهبة. والغريب أنه لا يبدو هنا موهوبا فقط ، بل وناضجا أيضا. تتواصل ملامح الإجادة مع مسلسل «الشوارع الخلفية» عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي . وهو عمل تضافرت فيه المعالجة الجديدة والجيدة مع انضباط الأداء التمثيلي وانسيابية الحركة والصورة في تحقيق إيقاعية متميزة وقوة دافعة . كما تميز بوجه خاص الأداء التمثيلي للوجوه الجديدة وقد يأتي رأيي صادما للكثيرين في أداء جمال سليمان الذي غلب عليه أسلوب الأكليشيه والمبالغة كالعادة. أبلغ المشاهد أما أجمل وأقوي دراما شاهدها الجمهور المصري في رمضان فبدأت مع تلك اللحظة العبقرية حين لاحت في الأفق بالقرب من المحكمة الطائرة المقلة للمخلوع، وكأنها جاءت لتلقي بالماضي العفن في سلة نفايات الوطن. وكما دارت عجلة التاريخ دارت عجلة المحاكمة. كانت الصورة أبلغ من أي كلام فنحن أمام سيناريو سينمائي من الدرجة الأولي . المقصي من خلال أسلاك القفص راقدا علي سريره المتحرك في عمق الكادر وأمامه ولديه يقفان وكل منهما قد أمسك بمصحف في يده. وكأن الشابين يكفران عن ذنوبهما ودورهما اللعين في تخريب ونهب البلد . لم يكن غرور الأب وعناده وجهله وطمعه كافيين لإسقاطه فكان ضعفه أمام ولديه هو الخطوة الأخيرة في طريقه لمصيره المحتوم. وكان الغائب الحاضر عن هذا المشهد هو الزوجة التي زينت لرجلها مخطط التوريث والتي تدخلت في شئون الحكم بصورة سافرة بعد وصول زوجها إلي أراذل العمر متشبثا بالكرسي حتي آخر نفس. تتحرك الكاميرا قليلا لتكشف عن كبير بلطجية المقصي في الجوار وقد وقف أمام أتباعه من رجال جهازه الذي أثار الرعب في قلوب المسالمين قبل المجرمين والصالحين قبل الطالحين . الأجمل في هذا المشهد الدرامي الحقيقي أنه يطوي صفحات ومجلدات من تاريخ هذا الشعب الذي آن له أن يدرك بعد آلاف السنين أن حاكمه ليس إلها ولا أباه وإنما رئيس ينتخبه بمطلق حريته ويحق له أن يحاسبه. ولن يسمح له ثانية أن يعامله علي أنه شعب من الخراف والنعاج، يأمرهم فيطيعوا ويسكتهم فيصمتوا ويغضب منهم فيطلق عليهم كلابه ويسرق خيرات أراضيهم فيشكروه علي ما يلقيه لهم من فتات . وعندما ينادي الثوار بخلعه أو محاسبته لن يطالب أحدا بالعفو عنه لأن الجميع سيدركون أن مستقبل هذا الوطن أهم وأكبر من أي شخص أيا كان.