سارعت كثير من الأقلام العربية الي التهليل والاحتفال لما تشهده إسرائيل من مظاهرات وفعاليات احتجاجية، ولم يتورع البعض عن التفاخر بأن "الربيع العربي قد وصل الي إسرائيل"! متجاهلا حقيقة ما يدور علي الساحة الإسرائيلية، وتأثير ذلك علي المستوي الاقليمي، وفي القلب منه القضية الفلسطينية. وتجاهل هؤلاء ايضا أن الثورة في جوهرها تعبر عن "صرخة ضمير"، لم يعد قادرا علي تحمل الظلم، لا لنفسه ولا لغيره، وبالتالي لا يمكن الحديث عما يحدث في إسرائيل باعتباره ثورة، لأن المظاهرات لم تخرج رافعة شعار العدل المطلق، فلم ترفع لافتات تنادي باعادة الاراضي الي الفلسطينيين، ولا اطلاق سراح الأسري الفلسطينيين، ولا الانسحاب من الضفة الغربية وغزة، ولا إبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين، الامر الذي يصب في نهاية المطاف باتجاه نتيجة واحدة، وهي أن الضمير الإسرائيلي - اذا كان هناك شيء من هذا القبيل أساسا - ما زال ميتا، ولا ينتظر عودته للحياة قريبا، لأن إسرائيل قائمة بالأساس علي مبدأ قتل الضمير، أي ضمير! في خلفية المظاهرات يمكن مصادفة بعض الاحداث والأخبار التي تشي بحقيقة الاحداث، مثل موافقة وزارة الداخلية الإسرائيلية بشكل نهائي علي بناء 1600 وحدة استيطانية في القدسالشرقية، فضلا عن الاعلان عن أن وزير الداخلية الإسرائيلي إيلي يشاي، يعتزم منح موافقته النهائية علي مشروع بناء 2700 وحدة استيطانية أخري في أحياء القدسالشرقية خلال أيام. واوضح المتحدث باسم يشاي أنه وافق علي 1600 وحدة في رامات شلومو (وهو حي استيطاني خاص باليهود المتشددين "الحريديم"، ويقع في الأراضي المحتلة عام 1967)، وسيوافق علي 2000 وحدة أخري في جيفعات هامتوس (المقامة علي أراضي بيت صفافا وبيت جالا، والتي تشكّل مع مستوطنة "غيلو" الحزام الجنوبي الغربي لتطويق القدس العربية وقطع التواصل مع الامتداد العربي، ومحاصرة القري العربية التي تقع داخل حدود بلدية القدس، وفصلها عن مدن الضفة الغربية)، و700 في بيسجات زئيف (من الأراضي المحتلة عام 67)، وهي 3 مستوطنات تقع في القدسالشرقية. وكانت وزارة الداخلية الإسرائيلية قد قررت الأسبوع الماضي نهائيا، بناء 900 وحدة استيطانية جديدة في حي "هار حوما" الاستيطاني، (فوق جبل أبو غنيم بالأراضي المحتلة عام 1967 في القدسالشرقية). في الداخل، وبعد إقرار الداخلية توسيع مستوطنة حريش (وادي عارة)، يتوقع أن تشهد المناطق العربية، لا سيما المدن المختلطة، مزيدًا من عمليات البناء الاستيطاني والتهويد، علي حساب السكان العرب. يتزامن ذلك أيضا مع اعلان دائرة "أراضي إسرائيل"، التي تعد الهيئة الرسمية لتنفيذ أعمال التهويد ومصادرة الاراضي العربية، عدة قرارات لتسهيل عمليات بيع الأراضي بدعوي الإسهام في احتواء مظاهرات الإسرائيليين احتجاجا علي أزمة السكن، وأوضح وزير الإسكان الإسرائيلي ورئيس الدائرة ارئيل اتياس أن معيار "الخدمة العسكرية" سيكون أحد أهم المعايير، بما يعني عدم السماح ببيع أي أرض إلا لمن أدي الخدمة بجيش الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي يعني قصر عمليات بيع الاراضي علي اليهود، وإبعاد العرب من تلك التسهيلات. وتتضمن التسهيلات تخفيض أسعار الأراضي بنسبة 50% للمستثمرين والمبادرين لبناء المساكن للبيع، وأدخلت تعديلات علي معايير المناقصات بحيث تفوز بالمناقصة الشركة التي تعرض أقل سعر للشقة، بالاضافة الي منح تخفيضات تتراوح بين 30% و40% للأراضي المخصصة لبناء المساكن للإيجار، وتسهيلات وتخفيضات لبناء مساكن للطلبة. تتضح حقيقة ما يحدث عندما تدعي وزارة الداخلية الإسرائيلية أن قرار تنفيذ بناء الوحدات الاستيطانية جاء لدوافع "اقتصادية" لا سياسية، بسبب المظاهرات التي انطلقت منذ أكثر من 3 أسابيع بسبب ارتفاع أسعار المساكن، وأن البحث جاري عن مكان يبنون فيه بالقدس، الأمر الذي يعني فعليا اطلاق عملية مكثفة لتهويد القدس والأراضي العربية في الضفة الغربية، وزرعها بالمستوطنات، تحت ستار أزمة الاسكان، التي تغطيها المظاهرات الإسرائيلية الحالية. واتهمت حركة "السلام الآن" الإسرائيلية نتنياهو باستغلال المظاهرات للترويج للاستيطان في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية، وقالت في بيان لها إن حكومة نتنياهو "تستغل أزمة السكن الحالية في إسرائيل للترويج للبناء في المستوطنات، بما يخدم أيديولوجية اليمين المتطرف، بما يهدم أية فرصة للتوصل إلي حل سياسي في القدس، ويشكل ضربة قاضية لوضع إسرائيل عشية الجمعية العامة للأمم المتحدة". كان جمال زحالقة، عضو الكنيست ورئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي البرلمانية، أكثر صراحة وتوضيحا حين خرج ليقول إن ربط الخدمة بالجيش بحل ضائقة السكن، خطوة تصب في السيل العنصري الجارف في إسرائيل، واضاف: "إننا اليوم بحاجة لإطلاق صرخة مدوية: لا نقبل حل مشكلة السكن في إسرائيل علي حسابنا، ولا نقبل أي حل يستثنينا، فهذه أرضنا وهم يستكثرون علينا أن نشتريها بمالنا بعد أن سلبت منا". ودعا زحالقة قادة الحركة الاحتجاجية التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية في إسرائيل أن تقرر هل تريد عدالة للجميع أم لليهود فقط؟ وأن تحسم أمرها هل هي مع تصدير الأزمة نحو الاستيطان وخنق البلدات العربية؟ وعليها أن تتخذ موقفا من التمييز العنصري بغطاء الخدمة العسكرية. وقال: "مصادقة وزارة الداخلية الإسرائيلية علي البناء الاستيطاني في القدس صفعة إسرائيلية جديدة للمجتمع الدولي ولكل من يحاول إحياء عظام المفوضات وهي رميم". سيناريو الإطاحة في المقابل تحاول بعض التقارير الإسرائيلية الترويج لتفسير آخر للأحداث، يتلخص في ان رئيس اتحاد العمال الإسرائيلي (الهستدروت)، عوفر عايني، يقود مخططا للاطاحة بحكومة نتنياهو، واقامة حزب جديد، والسير باتجاه انتخابات مبكرة في إسرائيل، يترتب عليها الاطاحة بنتنياهو وتسيبي ليفني وايهود باراك. تقول مصادر إسرائيلية ان عوفر يعتزم انشاء حزب جديد يعتمد علي لجان ونقابات العمال بكل أنحاء إسرائيل، والواقعة تحت سيطرته، ليكون حزبا اجتماعيا يمثل تيار يسار الوسط، من أجل كبح صعود حزب اليمين المتطرف "إسرائيل بيتنا" الذي يرأسه افيجدور ليبرمان، وينال من مكانة وقوة أحزاب الليكود وكديما والعمل. بل ويذهب البعض الي أبعد من ذلك عندما يتوقعون فوز رئيس الهستدروت في الانتخابات ليكون هو رئيس الوزراء الإسرائيلي القادم، او علي الاقل شخصية أخري سيختارها هو. ويرون أنه يمثل عنصرا قادرا علي تحقيق التوازن في الخارطة الإسرائيلية، استنادا الي رفعه شعارا موحيا هو "نطالب بتوجيه المليارات الي الازمة الاقتصادية بدلا من المستوطنات"، لكن آخرين يعتبرون عوفر عايني في بداية طريقه السياسي، وانه ما زال يتحسس خريطة السياسة الإسرائيلية، وسسرعان ما سيكتشف قوة المستوطنين في الصناديق الانتخابية، لينحرف باتجاه اليمين وأفكار الاستيطان بسرعة شديدة. الثابت في كل ذلك ان الفعل ما زال إسرائيليا، وان العرب ما زالوا يكتفون بدور المشاهد للأحداث، دون مبادرات، ودون خطوات استباقية "عربية"، بل ان الكثير من العرب يخطئ في قراءة ما يشاهده قراءة صحيحة، وبالتالي يكون الانزلاق نحو تقديرات ثم قرارات خاطئة. اخيرا.. نسي الكثيرون أن السبب الرئيسي لخروج المظاهرات الإسرائيلية لم يكن جمود عملية السلام، ولا وقف المفاوضات مع الفلسطينيين، ولا تدهور مكانة إسرائيل علي الساحة الدولية، وانما كان السبب هو ما يمكن وصفه بأزمة إسكان في إسرائيل! ومن حق البعض ان يتساءل: وماذا في ذلك؟ ان الإسرائيليين كبقية الناس يطالبون بتوفير مساكن لهم! وكان من الممكن القبول بالامر في الظروف الطبيعية، لكن الامر يتغير عندما نعلم ان المظاهرات انطلقت في شوارع إسرائيل بعد حملات اعلامية وسياسية مكثفة تتحدث عن ضغوط أمريكية وعالمية علي حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أجل القبول باستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، ووقف الاستيطان، واعتماد حدود يونية 1967 حدودا رسمية للدولة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي، بما يعنيه من فك للمستوطنات! عندئذ فقط تندلع مظاهرات عارمة لسبب - بالصدفة - هو ازمة الإسكان، بما يعني ان نتنياهو وحكومته يريدون أن يقولوا للعالم: هل ترون المأزق الذي نعانيه؟ ان الإسرائيليين لا يجدون مساكن ينامون فيها، ويبيتون بالشوارع، وانتم تأتون لتطلبوا مننا وقف الاستيطان، واخلاء مستوطنات، وقبول حل الدولتين علي اساس حدود يونية 1967، بما يعني مزيدا من التضييق علي الإسرائيليين في مساحة الاراضي التي يعيشون عليها، و"الشعب الإسرائيلي" لن يقبل ذلك!". هذا هو الدرس يا سادة، فالمطلوب خفض سقف التوقعات العربية والدولية فيما يتعلق بالمفاوضات والحدود والمستوطنات، فضلا عن ايجاد مبرر يكتسب الصفة الشرعية من خلال مظاهرات حاشدة، تحت الشعار الهلامي الاكثر شيوعا في منطقتنا هذه الأيام وهو "الشعب يريد"!.