أحمد عبدالرحيم مصطفي عثر في المتحف البريطاني علي أوراق مخطوطة ليوسف حككيان يحكي فيها الفترة التي عاش فيها في مصر بين عامي 1840 - 1863 اشترك حككيان في تأسيس الجمعية الجغرافية المصرية عام 1835 وأوصي في أيامه الأخيرة بوضع كتبها في دار الكتب المصرية مازال المؤرخون يرددون عبارة"إن التاريخ لم يقل كلمته بعد"، وهم بذلك لا يقصدون أن التاريخ يجدد أراءه ذاتياً! وإنما يعنون بعبارتهم هذه الترويج لأنفسهم، فطالما وجد المؤرخون، فسيظل التاريخ ينتج دلالته المتغيرة علي نفس الأحداث، فما حرفة المؤرخ إلا إعادة قراءة التاريخ، وتأويله، أو بالأحري هو سيناريست الماضي، فهو يقع في موقع القارئ المؤول الأول للتاريخ، فكلما توافرت وثائق جديدة أمام المؤرخ، أعاد قراءة التاريخ عبر ما توافر لديه من تلك الوثائق، فالكتابة التاريخية هي فعل، وانفعال، وبين أيدينا صاحب الفعل "حككيان"(18071875م)، وصديقه المؤرخ الذي انفعل به، وهو د. احمد عبد الرحيم مصطفي"(19252002م)، شاهدان علي عصر تم تعتيمه، هو تاريخ مصر في نهاية حكم"محمد علي"، حتي بداية عصر الخديو "إسماعيل"، وهي الفترة التي ما أن تتكشف لنا أجواؤها، حتي تعود بالتغذية العكسية علي الجذور التاريخية للمشروع النهضوي المصري في العصر الحديث، حتي يتسق مع المشروع الغائب الذي نبحث عنه اليوم للخروج من أزمتنا الراهنة. مؤسس المدرسة العلمية للتاريخ؟ يعد د."أحمد عبدالرحيم مصطفي"، أحد علماء التاريخ الحديث البارزين، وعلم من أعلام المؤرخين المتميزين بالالتزام بالمنهج العلمي الحديث، ومؤسس تقاليد البحث العلمي الموضوعي للكتابة التاريخية، ويذكر لنا في سيرته د."أحمد زكريا الشلق"، بأن مؤرخنا قد ولد في إحدي قري سوهاج في عام 1925م، وحصل علي درجة الليسانس بامتياز في الآداب من جامعة القاهرة عام 1946م، وأعقبه بدبلوم معهد التربية العالي في عام 1948م، ليشتغل لفترة قصيرة بالتدريس بالتعليم الثانوي ببلدته سوهاج، وفي عام 1951م يحصل علي درجة الماجستير بدراسته عن"علاقة مصر بتركيا في عهد الخديو إسماعيل"، فيعين معيدا بجامعة "إبراهيم باشا"، "عين شمس" فيما بعد، ثم يوفد في بعثة دراسية إلي جامعة لندن، ليحصل علي دكتوراه الفلسفة في التاريخ في عام 1955م، ليعود بعدها ليشغل وظائف التدريس في كلية الآداب بجامعة عين شمس منذ عام 1956م، حتي أصبح وكيلا للكلية لعام 1972م، فيعار بعدها للعمل أستاذاً بجامعة الكويت حتي عام 1987م، مارس خلال حياته العلمية مناشطاً متنوعة بين التأليف التاريخي، والترجمة، وكان من اكبر أساتذة "سمنار" التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة عين شمس، كان قد تزوج عقب عودته من بعثة انجلترا باسبانية، قد تعرف عليها هناك، وأنجب منها ثلاث إناث، ولم يعقب ذكوراً، وسكن في حي شبرا بالقاهرة عند عودته من البعثة، إلا انه انتقل إلي حي مصر الجديدة بميدان "تريومف" في عام 1979م، ورحل عن عالمنا ظهر الاثنين 25 مارس عام 2002م، ليواري الثري في مسقط رأسه بسوهاج، وكان مؤرخنا جم التواضع، عزوفاً عن الأضواء، إلي درجة أننا تمكنا من العثور علي صورة"حككيان"، علي الانترنت، بينما فشلنا في العثور علي صورته هو، وحصل علي وسام المؤرخين العرب، كما نال جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية في عام 1998م، وقد بدأ حياته منجذباً إلي الأدب، فكان أول مؤلفاته، كتاب بعنوان"توفيق الحكيم أفكار وآثاره"، نشره في عام 1952م، وكان متابعاً للكتابات التاريخية عند أدباء عصره أمثال:"العقاد"، ود."هيكل"، و"إحسان عبد القدوس"، وغيرهم، ومن أشهر مؤلفاته"مصر والمسالة المصرية" عام 1966م، و"الثورة العرابية" عام 1967م، و"في أصول التاريخ العثماني" عام 1980م، كما ترجم كتاب"بريطانيا والدول العربية" لمؤلفه"سيتون وليمز" عام 1952م، وكتاب" الاقتصاد والإدارة في مصر في مستهل القرن التاسع عشر" عام 1967م، كان يؤمن بان المؤرخ الحقيقي لا ينبغي له أن ينجذب وراء الأضواء، أو يسعي لذوي السلطان ليستطيع أن يحافظ علي استقلاليته وحيدته، وان يمتلك زمام قلمه الذي انتدبه لمهمة مقدسة. المتحف البريطاني؟ عثر د."احمد عبدالرحيم مصطفي" علي أوراق "يوسف حككيان" المخطوطة، في المتحف البريطاني، تحت رقم 37448/71، وهي تحتوي علي سيرته الذاتية، وانطباعاته الخاصة، خلال الفترة التي عاش فيها في مصر بين عامي 1840و1863م، وهي فترة لم تحظ بالاهتمام الكافي من جانب المؤرخين، وتقع مخطوطات"حككيان" في المتحف البريطاني في أربع وعشرين مجلداً، وتضم مفكراته ورسومه، ويومياته في انجلترا وسيرته الذاتية، ورحلته إلي مصر، ورسومات للآثار التي جري التنقيب عليها عام 1854م، وجدول بمنسوبات النيل، وتحتوي علي مراسلات "حككيان"، وأوراق متفرقة ذات صلة بشئون مصر، ومن المؤسف أن تظل هذه اليوميات بدون ترجمة إلي اللغة العربية، رغم طباعتها وتصحيحها إلي اللغة الانجليزية، ونشرها، فنهيب بالمشروع القومي للترجمة، الحصول علي حقوق ترجمتها إلي اللغة العربية، وطباعتها طبعة محققة مشمولة بفهارس الأعلام، والأماكن، والأحداث التاريخية، لتصبح هذه الأوراق في متناول المؤرخين، لقيمتها في رصد تاريخ مصر في فترة تعد إلي اليوم مجهولة. حككيان ولد"يوسف حككيان" في العام 1807م، في اسطنبول في أسرة أرمينية كاثوليكية، عمل والده بمصر مترجماً لدي"محمد علي"، وانتهز فرصة إرسال "محمد علي" في عام 1817م لبعثات لتعليم أبناء كبار موظفيه بباريس، فطلب منه إرسال ابنه"يوسف" لكي يتلقي تعليمه بانجلترا، كرغبته، ولبي"محمد علي" طلبه والتحق "حككيان" لأنه كاثوليكياً بكلية"ستونيهرست"، وظل حتي عام 1824م يدرس اللغة الانجليزية، إلي جانب اللغة الفرنسية، واللاتينية، وفي 11 ديسمبر 1824م وردت إليه التعليمات من "باغوص بك يوسفيان" وزير التجارة والشئون الخارجية في مصر، أن يتفرغ لدراسة آلات الغزل والنسيج، والاطلاع علي كيفية بناء الطرق، والكباري، والقنوات، والأرصفة النهرية، وفي أول مايو عام 1825م قام"حككيان" بزيارة مصانع القطن في "جلاسكو"، واخذ يجمع المعلومات التطبيقية عن تلك الصناعة، وطرق إدارتها، وفي خريف عام 1831م، عاد "حككيان" إلي مصر وقد نسي اللغة التركية تماما إلي حد أن قام"محمد علي" بتزويده بمترجم خاص له، وعينه مراقباً عاماً لمصانع القطن في الحوض المرصود، والخرنفش، وبولاق، والمبيضة، وهو ابن الأربعة وعشرون عاماً فقط، كما وضع تحت إشرافه عشرين من طلبة القصر العيني لتعليمهم مبادئ الهندسة، والرياضيات، والميكانيكا، ويذكر د."احمد عزت عبدالكريم" في كتابه"تاريخ التعليم في مصر"، أن "حككيان" عين مديراً لمدرسة الهندسة الجديدة، وان"محمد علي" قال:"انه لم يبعث حككيان ليصبح لورداً في أوروبا، بل ليعود إلي البلاد ويقوم بتعليم الطلبة النافعين للأمة والبلاد، وإلا يضرب بالعصا"، ، ويذكر"محمد فؤاد شكري" في كتابه "بناء دولة مصر محمد علي" أن"حككيان" قد لفت نظر"محمد علي" إلي ضرورة تعليم البنات، كما اشترك"حككيان" في تأسيس الجمعية الجغرافية المصرية في عام 1835م، والتي أوصي"حككيان" في أيامه الأخيرة بوضع كتبها في دار الكتب المصرية، علي حد قول"جمال الدين الشيال" في تاريخه للترجمة والحركة الثقافية في عصر"محمد علي"، وبين عامي 1844و1850م، ترأس"حككيان ثلاث بعثات للبحث عن مناجم الفحم في مختلف صحاري مصر، وجبالها، وفي عام 1849م، عين رئيساً لمجلس الصحة، إلا انه تقاعد في عام 1849م، بسبب سوء أحواله الصحية، ويري د."أحمد عبدالرحيم" انه لم يستطع بيان وضع"حككيان" الوظيفي أثناء، فترة حكم الخديو"عباس الأول"، أما أوراقه الخاصة، ورسوماته، ومراسلاته، فقد قام ابنه"تيتو" أحد أقطاب الجالية الأرمينية في الإسكندرية، بإهدائها إلي المتحف البريطاني، كما توجد العمارة رقم 9 بشارع سيزوستريس بالقاهرة، والتي يقع بها مقر نقابة المهندسين، والمملوكة لحفيدته مدام"لوجيه حككيان"، قد تم توثيقها بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة تحت رقم 69، ومن هنا يتضح أن"حككيان" قد أصبح مصرياً خالصاً حتي توفي في عام 1875م. مشروع حككيان النهضوي لم يكن مشروع"حككيان" النهضوي الذي عاصر به فترة حكم "محمد علي"، والخديو"عباس الأول"، منبت الصلة بواقع الحياة المصرية، كرجل تركي الأصل، غربي الثقافة، وإنما كان نتاج معايشة للواقع المصري الذي اندمج معه إلي أقصي درجة، فقد كان بحكم عمله، ميسوراً له الاتصال المباشر مع جميع طبقات الشعب المصري، حتي الدخول إلي غرف"الحريم"، فقد تمكن من أن يحتوي مشاكل المصريين عبر ما يملكه من نظرة عالمية، خالية من التعصب القومي، أو العرقي، أو الديني، فهو قد عاصر في أوروبا علي مدار اثني عشر عاماً ظهور الثورة الصناعية بها، وظهور مبادئ التجارة الحرة، والنزعات الليبرالية، وكان مشروعه مؤسساً علي منطلق فكري من أن التعليم، وحرية التجارة، من شأنهما أن يجعلا الناس يلبون دواعي العقل، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم، فهو لم يصطدم مع الموروث الثقافي المصري، ولم يتخذه عائقاً للتنمية التي يهدف مشروعه لإحداثها، وإنما طوع ذلك الموروث الثقافي المصري لكي يكون معيناً له علي تنفيذ مشروعه، ومشروع"محمد علي" النهضوي، وتلك هي المأساة التي تواجهنا اليوم أثناء الإعداد لاي مشروع تنموي نهضوي، حيث الصدام مع الموروثات الثقافية المتغلغلة داخل المجتمع، فقد عالج تلك الإشكالية عبر إقامة مؤسسات عامة، يستطيع من خلالها أن يتلقي الفقير، والغني، والعامة، والنبلاء، بل وأبناء الملك نفس التعليم، ويتمتعوا بنفس المزايا، وقد صرح برأيه هذا حضور"عباس الأول" ، و"نوبار باشا"، فالمشروع النهضوي في عصر "محمد علي" اعتمد علي توحيد أنظمة التعليم، وألا تكون كما هي اليوم متفاوتة، حيث اليوم ينعكس التفاوت الطبقي، علي تفاوت آخر في مستوي التعليم، ونوعيته، ولا يلبي حاجات المجتمع أصلاً، وتلك عقبة يجب تذليلها قبل الدخول إلي أي تنمية مرتقبة. البيروقراطية المصرية يرصد"حككيان" في أوراقه، الجذور التاريخية للبيروقراطية المصرية، فقد ربطها بفكرة الحاكم المستبد المستنير، علي حد وصفه ل"محمد علي"، فالطغيان الذي كان يمارسه علي شيوخ البلد، وبالتالي مارسوه علي صغار المزارعين، جعلهم يتركون الزراعة، ويختبئون في المدن، ويتحولون إلي خدم، أو ما شابه ذلك، فهو يرصد المحاولات الأولي للتغيير الديموغرافي في الخريطة السكانية لمصر، ويرجع سبب الهجرة من الريف إلي طبيعة الحكم المطلق الذي عانت منه مصر، حتي انه سأل"مكاري" يوماً عن "عباس"؟ فأجابه:"أنه كسول وقاس علي الفقراء، يكلفهم بأعمال شاقة ولا يدفع لهم من الأجر إلا القليل"، وكان "المكاري" هنا معبراً عن حال الشعب المصري، أثناء فترات السخرة، ربما اختفت السخرة، ولكن بقيت معاناة الشعب كما هي علي حالها، تشكو سوء توزيع الثروات علي أبناء الشعب، وتفاوت دخولهم، بل انه يرصد مشكلة مازالت إلي اليوم بين موظفي الحكومة، والتي تحول دون قيامهم بأعمالهم علي أحسن وجه، وهي عدم اطمئنان الموظف إلي إخلاص رئيسه، وعدم اطمئنان الرئيس إلي ولاء موظفيه، وبالتالي وجود شكاوي متبادلة عبر السلم الاداري، ويتحدث عن موظفين الرئيس الطاغية، فيذكر"باغوص بك" الذي خدم "محمد علي" لأكثر من ثلاثين عاماً، فهو كان رجلاً ممتازاً، ولديه القدرة علي انجاز المهام التي يكلف بها، إلا انه كان مرءوساً لطاغية، ظل طوال حياته يتمتع برضي الطاغية، في بلاط يتصف بالطغيان، وسر نجاحه، انه لم يكن يعمل من منطلق قناعته الشخصية، وإنما عبر سياسة الباشا، ولم يعترض علي آرائه بأي شكل من الأشكال، فلم يكن يجازف بأي شيء، وهذه الصفة مازالت موجودة إلي اليوم في الموظف الحكومي المصري، فكل رؤسائه طغاة، يعمل علي إرضائهم، وبالتالي فهم لا يتخذون القرارات للصالح العام بقدر ما هي لإرضاء الطاغية، كما أنهم يتجنبون المجازفة التي تعرضهم للمساءلة، حيث انهم يهدفون للبقاء أطول فترات ممكنة في مناصبهم، علي مقاعدهم، من اجل تحقيق اكبر منافع شخصية لهم، ولذويهم، وهذا هو سر فشل الجهاز الاداري المصري، وهي نفس الظاهرة التي رصدها في مطلع التسعينات من القرن العشرين في مصر، عن الإدارة في مصر، "مونت بالمر" في كتابه"البيروقراطية المصرية" ربما كان هو احد أسباب انهيار مشروع "محمد علي" النهضوي فيما بعد، والعائق الأول أمام أي مشروع نهضوي تنموي منتظر. إن المشروع التنموي النهضوي المرتقب من جيل ثورة يناير 2011م، يجب ألا يكون منفصلاً عن تاريخ التنمية في مصر، وإنما مدركاً لأسباب اخفاقاتها، والتي إن مازالت قائمة، فلا نجاح مرتقب لاي مشروع نهضوي، فالتنمية هي امتداد للماضي، وتوقع للمستقبل، وتحرك عبر الواقع، وليست القضية في نوع النهضة، أو شكلها، بقدر ما هي القدرة علي مواجهة أسباب فشل المشاريع النهضوية السابقة، ومازلت اردد إلي اليوم كلمات استاذي د."عبدالكريم درويش"، التي قالها لنا في مدرج 6 أكتوبر، بكلية الشرطة بالعباسية، أثناء محاضرته في الإدارة العامة، في عام 1984م"دع الحمقي يتنافسون، حول أشكال الحكم إن أعظم الحكومات، هي أنجحها إدارة".