هكذا كان عنوان الباليه الذي قدمه موريس بيجار في أول موسم لأوبرا القاهرة بعد افتتاحها تكريما منه لحضارة مصر ودورها الثقافي الكبير علي جميع المراحل الزمنية والتاريخية التي مرت بها مستخدما شخصية الصوفي الكبير «ذو النون المصري» ليقوم بربط المراحل المهمة من تاريخ مصر التي يستعرضها بيجار في هذا الباليه الكبير. ولاشك أنها فكرة رائعة أن تعود فرقة باليهاتنا الوطنية لإعادة تقديم هذا العرض عن طريق راقصيها ومبدعيها الكبار «محتفظة» بالخط الأساسي الكوريوجرافي والموسيقي الذي انتهجه بيجار في رؤيته الموسيقية والحضارية لهبة النيل. انه ينطلق من الأساطير الفرعونية معبرا عن روح مصر الخالدة قبل أن ينتقل إلي الإسكندر الأكبر ثم المرحلة الإغريقية التي جثمت علي البلاد فترة طويلة أعقبتها المرحلة المسيحية.. ثم ظهور الدعوة الإسلامية التي عمت البلاد كلها واعطتها طابعها الذي مازالت تعيش فيه حتي الآن، هذه المرحلة التي تميزت بروحانيات كثيرة واتجاهات صوفية مازال صداها يتردد حتي الآن في القلوب.. مرورا بعد ذلك بغزوة نابليون لمصر.. وانفتاح البلاد علي الحضارة الغربية وبدء دخولها المعترك المعاصر.. دون أن تفقد هويتها الأصلية وروحها العميقة الصافية التي تمثلت في أوجه الحضارة المتعددة التي عرفتها مصر.. ومثلتها في فترة من الفترات أغاني أم كلثوم قبل أن يختتم بيجار رحلته الرائعة هذه بنور باهر يسيطر علي خشبة المسرح ويعلن بعث الروح المصرية التي لا تموت علي خلفية أهراماتها الخالدة. كما نري المشروع الذي يقدمه بيجار مشروعا كبيرا ومتكاملا عرف المصمم العبقري كيف يضعه ويصنفه من خلال لوحات راقصة لا تنسي أظهر فيها كل ما تحمله عبقريته الراقصة من ميزات. هذا العمل الكبير لم ترغب الأوبرا في وضعه في ثنايا النسيان وقررت احياءه من جديد، وهي علي حق تماما بذلك .. مستعينة بأشرطة التسجيل القديمة التي صورت هذا الحدث الفني عند وقوعه وقام الموسيقار طارق شرارة بإعادة تسجيل الموسيقي التي اختارها بيجار.. من حدائق الموسيقي العالمية والفارسية واليونانية والشرقية القديمة.. مضيفا إليها بعض القطع التي لم يتمكن التسجيل القديم من رصدها محاولا إيجاد البديل المناسب لها الذي يتلاءم مع روح الكوريجرافيا التي وضعها بيجار. بهاء موسيقي عمل كبير ومقتدر أدار طارق شرارة بنجاح ملحوظ مما أعطي العرض كله بهاء موسيقيا.. يليق بالفنان الكبير الذي اختار أصلا هذه المقطوعات.. كما نجحت أرمينيا كامل في إعادة الروح إلي كوريوجرافيا بيجار محتفظة بأسلوبها المميز ورقصاتها الشديدة الصعوبة والتي تعتمد علي قدرات استثنائية لدي الراقصين .. استطاعت أرمينيا بمساعدة زوجها عبدالمنعم كامل أن تروض أجساد راقصينا الشبان عليها.. مستعينة بنجوم ضيوف أعطوا إشراقا كبيرا للمجموعة كلها ووهبوها عطرا نافذا هي بحاجة إليه. أخص بالذكر الراقص الكوبي روليان راموس الذي رقص بإبداع خارق علي أنغام القصيد الصوفي لأم كلثوم «تائب تجري دموعي ندما» أو الراقصة الإسبانية ماريا خوسيه بيزا التي كانت مفاجأة حقيقية في أدائها الرائع والصعب لشخصية إيزيس الأسطورية. ولا يمكن تجاهل بقية أعضاء الفرقة شباب وشابات الذين نجحوا في تقمص روح النور التي اسبغها بيجار علي عمله الذي يفيض محبة لمصر وتاريخها وفنونها وضميرها الحي. وبالطبع شأن كل الباليهات التي تعتمد علي رؤية أحداث مختلفة من التاريخ لا تبدو اللوحات كلها علي مستوي واحد مهما كان شأن مبدعها. وإذا كان بيجار قد حلق في تعبيره عن أغاني أم كلثوم الصوفية والعاطفية كما حلق أيضا بخياله ورسم له اجنحة بيضاء طارت بنا إلي السماء العالية في تصويره الصراع بين فرعون وألكسندر .. أو في تعبيره عن فرحة الجموع في المشهد اليوناني.. فإن التوثيق لم يحالفه كثيرا في عرضه لنابليون وحملته التي اعتمد فيها علي موسيقي بيتهوفن في سيمفونيته التاسعة مما يطرح سؤالا غامضا عن وجهة نظر بيجار في الحملة الفرنسية. المرحلة القبطية كما كان تصويره للمرحلة القبطية المهمة جدا في تاريخ مصر عابرا وسطحيا رغم اعتماده علي موسيقي قداس لموزارت بينما جاء اختياره للموسيقي الإيرانية الصوفية لعمر ميشيوي ومجيد خالادح عبقريا في تأثيره واشعاعه. الأهرامات والثورة عمل فكري وفني يتوقف المرء معجبا أمام تفاصيله وروعة الرؤية التي تقدمه والاختيار الموسيقي الذكي المصاحب .. وجمال وشاعرية الحركات التي يقدمها بيجار في إطار يختلف من لوحة وأخري.. ولكنها تتفق جميعا في أنها تحمل رؤية ناضجة لتاريخ حضاري كبير نفخر به أمام العالم كله. ولعبت تصاميم الأزياء التي ابتكرها فيرساتشي في إعطاء الأجواء التي يصورها بيجار بعدا جماليا مرموقا .. خصوصا في استعماله الألوان البيضاء والسوداء بقوة درامية مؤثرة.. والألوان البرتقالية الهفهافة لخلق جو حالم في بعض تفاصيله كما اختار الألوان السوداء القاتمة وحدها مع الراقصات اللاتي عبرن عن أجواء وموسيقي أم كلثوم في أغنية سيرة الحب مستغلا بعد ذلك ثنائية راقصة مدهشة.. تمثل عن طريق الحركة كل ما جاء في كلمات سيدة الغناء معتمدا علي رمز نظارتها السوداء الثقيلة ومنديلها الحريري الأبيض «وقد لعبت الراقصة اباكا مورا كامي الدور بإبداع حقيقي». «الأهرام والثورة» عنوان تقليدي اختارته خطأ إدارة الأوبرا لتقديم باليه بيجار الذي كان يحمل اسم «الأهرامات .. والنور» وهو عنوان أجدر واحق بكثير من هذا العنوان الجديد الذي يتسلق رغما عنه هضبة لم يفكر بيجار اطلاقا في صعودها. احترام العنوان من واجبنا تجاه المبدع الكبير الراحل أن نحترم العنوان الأصلي الذي اختاره والذي يعبر عن رؤيته الحقيقية لماضي مصر وحاضرها، وألا نضيف إليه ما لم يقصده وما لم يرم إليه. هذا العرض الكبير الذي استهلك وقتا وجهدا خارقا لتنفيذه لا يمكن اعتباره «عمل مناسبة» يعرض من أجل تكريم الثورة ثم يرفع ويوضع بعيدا .. إنه عرض رائع يستحق أن يضم إلي ربرتوار الفرقة بشكل دائم وأن يضيف إلي جهدها سهما مضيئا جديدا علي أن يعود إلي اسمه الأصلي وإلي رؤيته الخاصة وأن نخرج به من نطاق الثورة المحدد إلي أفق العروض التي تتحدي الزمن والتاريخ .. بما تملكه من جماليات وقوة تأثير وإبداع حقيقي.