عندما يتحول الفن إلي كتابة حية في دفاتر العشق والوطن والإنسان، نصبح أمام مواجهة فريدة لوقائع البوح والوعي.. والتمرد والعصيان، وفي هذا السياق يأخذنا الفنان الكبير جلال الشرقاوي إلي أحدث تجاربه الإبداعية «دنيا أراجوزات» التي أثارت اشتباكا جدليا ثائرا مع تلك اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ مصر وفي مسارات الفن، ومعني المسرح في زمن التحولات الكبري وعذابات البعث والميلاد. وهج ساحر تكشف شخصية الشرقاوي عن قامة فنية شامخة، وكيان ثقافي وإنساني مبهر، فقد امتلك ذلك الوهج الساحر الذي دفعه إلي معانقة الحياة، وملامسة أحلام مشاغبة، تحققت في واقع فني ثري ظل يموج بالعشق والجموح والتمرد والطموح. وهكذا جاءت تجاربه الغزيرة لتثير اشتباكات ساخنة مع السياسة والاقتصاد وقضايا الإنسان، واتجهت رؤاه الكاشفة إلي ملامسة الجمرات النارية الساكنة في أعماق البشر، فكانت تصوراته هي اختراق للصمت وتفجير للزيف، وتنوير لأسرار الغموض، وإذا كان جلال الشرقاوي قد فتح آفاقا مغايرة أمام فن المسرح، فإنه قد عثر علي الوسيلة التي أتاحت له حق الاختلاف والإبداع والمواجهة، لذلك لم تكن أعماله هي قياس للحاضر علي الماضي.. بل كان للآتي قانونه الخاص وإطاره المتميز. في دنيا الأراجوزات كانت التجربة مختلفة ومغايرة، فهي تمتلك معني فريدا خاصا، يبوح بأسرار الوعود والعهود، برائحة الوطن، باندفاعات الشباب وجموح الثورة.. وسحر الإرادة وامتلاك الذات، فهذه المسرحية هي ابنة شرعية لصراع طويل بين المخرج الفنان وبين وزارة الثقافة ومحافظة القاهرة، ذلك الصراع الذي يراه الشرقاوي طويلا وقاسيا ومريرا ولا يزال مستمرا حتي الآن.. فمسرح الفن هو وطن المخرج المثقف، ونفسه وعرضه وماله وبيته وكل حياته، وكما جاء بكتيب العرض فقد شهدت هذه الظروف المعقدة قرارا بألا تتوقف المسيرة الفنية ولم يحدث في حياة الشرقاوي كلها أن أخرج مسرحية تحت كل هذا الضغط القاسي والقهر العنيف.. ورغم المرارة التي تسري في العقل والقلب، وقع الاختيار علي نص دنيا أراجوزات الذي يحقق مفاهيم الفكر والفرجة، ويستوعب طاقات فريق ضخم من الشباب. مؤلف المسرحية هو الفنان الجميل محمود الطوخي الفارس الرومانسي الثائر، الباحث عن المعني والهدف والجمال والاكتمال.. تبعث أعماله دائما حالة من الوهج والجدل والتساؤلات، وفي هذا السياق يشير الطوخي في كتيب العرض إلي تجربته الجريئة دنيا أراجوزات، عندما كانت الأوراق مبتورة.. صاخبة مكتئبة موجوعة، جارحة الجرأة أو مجنونة.. لكن المسألة انضبطت مع عقل وفن جلال الشرقاوي فتحققت البهجة والمسئولية وزادت الجرأة، ويذكر أن المسرحية تنتمي إلي صيغة الكباريه السياسي وهو مصطلح يعني المنتدي الثقافي الذي تناقش فيه أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهو شكل مسرحي شديد الإبهار والحيوية، ظهر في ألمانيا وروسيا في ثلاثينات القرن العشرين، أما الأصل الألماني لكلمة الكباريه هو كباريت. تدور الأحداث في إطار من الإبهار والتدفق موجات الفرح تبعث دهشة الفن وتيارات الوعي تخترق الأعماق.. الضوء الواضح يمزق الأقنعة ويكشف الأسرار واللحظات الأولي تأخذنا إلي استعراض مثير يضعنا في قلب حالة مسرحية مغايرة، حيث الكوريوجرافيا اللاهثة والفالس الرشيق والموسيقي والجموح والشباب، وصخب الضوء والألوان. خلفية ساحرة كانت مصر حاضرة في قلب المشهد حيث الخلفية الساحرة وشموخ القلعة وماسبيرو والبرج بانوهات اليمين واليسار تختصر التفاصيل، وتروي حكايات الدفء والخصب، وأغنيات الأراجوز للدنيا الحظوظ والواد علي لوز تثير عذابات الشجن. جاءت المفارقة الساخنة شديدة الدلالة والبلاغة تموج بالبراءة الظاهرية المراوغة، بينما تتفجر الأعماق بالرؤي السياسية الثائرة.. فالأراجوز والأراجوزة أعلنا العصيان.. تمردا علي وجودهما المختنق، وضعا مدربهما في الزاوية الحرجة، وقررا أن اللعبة قد انتهت، ومضي زمن الاستبداد والعبث، وعبر تضافر الضوء والموسيقي والحركة تتبلور صدمة اللاعب الذي اعتاد السيطرة ونلمس أبعاد رضوخه للمطالبة بسقوط نظامه، وتأخذنا رشاقة لغة الإخراج وجمالياته الساحرة إلي ميلاد جديد يدفع بالأراجوزات إلي قلب حاضرنا المسكون بالخلل، ليصبحا في عمق المشهد الإنساني ويتحولا إلي استعارة درامية رفيعة المستوي ترسم أبعاد الشخصية المصرية في أصفي حالاتها.. وهكذا يصبح كلام الليلة عن مصر وتنطلق اشتباكات الكباريت مع وقائع ما يحدث في بلادنا من استلابات الروح والوعي وعذابات التسلط والقهر. انتقالات مدهشة تأخذنا رشاقة التشكيل السينوغرافي إلي عالم يموج بتيارات الحركة والانتقالات المدهشة، حيث التوظيف المتميز للخلفيات التي منحت المشاهد المتوالية ميلادا وزمانا ومكانا وهوية واضحة، وفي هذا الإطار يطرح العرض قضية العلاقة بين الشرطة والشعب، ويأتي ذلك عبر حالة من الفن المسكون بلغة الكوميديا والجروتسك، حيث التناقضات الحادة بين مجموعة من الشباب العابث عاشوا ليلة ساخنة مع الساقطات والمخدرات، وأثناء عودتهم يصطدمون بشاب فقير يبيع الجرجير ليبحث عن الحياة والحرية، وحين تتبعثر أشياؤه الصغيرة يلجأ للشرطة.. لتتفجر الدلالات والاحالات ونصبح أمام يقين عارم بأن حكومات الماضي كانت فاسدة تلك الرؤي التي تأتي كتعليق من الأرجوزات في نهاية المشهد يدين ميراثا طويلا من الاستبداد والبلطجة. الجمال الشرس اتجهت جماليات الكتابة ومنظومة الإخراج إلي بعث حالة من الجدل الثري الذي غابت معه الرؤي الأحادية المغلقة، وعبر هذه التيارات انطلقت حالة من الجمال الشرس الأخاذ، حين اشتبك العرض مع قضية التوريث التي جاءت صياغتها بأسلوب الكاريكاتير الكاشف عن زيف الواقع السياسي، وعن انتهاك الديمقراطية واغتيال الحرية، حيث تضافر الضوء والأداء والسينوغرافيا مع دلالات صورة العمق الكبيرة، لوجه رجل بلا ملامح يحمل صورة طفل في فمه ببرونة، وعبر الحوار الرشيق الساخن نتعرف علي رئيس مجلس إدارة المؤسسة الكبري الذي يبحث عن نائب له فيتجه إلي تزييف الشروط التي وضعتها بيوت الخبرة العالمية لتنطبق في النهاية علي ابنه..! ورغم إدراك كل معاونيه لطبيعة اللعبة، إلا أنهم يصرون بقوة علي التمسك بشفافية الاختيار ليصنعوا بذلك وهما مريرا كاد أن يدمر مصر ويستلب إرادة شعبها. في انطلاق رشيق إلي سيكولوجية التحرش الجنسي، يدين العرض التوجه الإعلامي لاستثمار القضية بأسلوب ساخن، مفرغ من محتواه العلمي، وفي هذا الإطار تأتي جماليات الصياغة الفنية لتشتبك مع مفهوم الحكواتي في صيغته العصرية، حيث برامج التوك شو، والمذيعات والضيوف والشاشات العملاقة، والإيقاعات التي تأخذنا إلي عزف علي أوتار الواقع الاقتصادي والاجتماعي الخانق، حيث الشباب والشابات، والجسد والرغبات، وعذابات الفقر، وأسرار ليالي الخادمات، وعاملات اللانجيري، وفتاوي القبلات، ودخول الحمام، وأفكار هؤلاء الذين افسدوا عقول الناس .. تلك الرؤي التي جاءت مسكونة بجماليات الدراما والحركة والتصاعد والمشاعر المتوهجة. تمتد موجات الفن الجميل ويعايش المتلقي أبعاد مفارقة درامية شديدة البلاغة تضع علامات الاستفهام أمام المعني والجدوي والعلاقات والقيم، حيث يأخذنا التشكيل السينوغرافي إلي الشارع المسكون بالفقر والفراغ وأحزان المجهول، ونري الشاب الصغير يذاكر أمام منزله المتواضع، يبحث عن الضوء القادم من المصابيح، أمه تمنحه طاقات الحب والحنان، وتحلم معه بأضواء المستقبل، وحين تخرج من السياسة والاقتصاد داعبه بريق السلك الدبلوماسي، وفي الإنترفيو سألوه عن عائلته فأجاب بفخر وكبرياء تحدث عن جده البنّاء وأبيه العسكري، وأمه الست الطيبة، وجدته الخادمة لكنهم أخبروه علي الفور أنه غير لائق اجتماعيا.. لذلك كانت صدمته مروعة دفعته إلي إدانة أمه وإلي اغتيال كل حبها، وفي هذا السياق يأتي التعليق الإبداعي المدهش حين نري الأراجوز والأراجوزة يجسدان الموقف النقيض الذي تمناه الفتي، حيث الأم الرشيقة التي تذوب في الإيقاعات الشرقية الراقصة، والابن السعيد بسفره القادم، بينما يمتد الضوء إلي عمق المسرح لنري أحزان المرأة الأخري وهزائم أحلامها، وتساؤلاتها الضائعة في دوامات العبث. واقع مغاير شهدت منطقة ماسبيرو اعتصاما ممتدا لأهالي الدويقة للمطالبة بمساكن آدمية، بعد أن تهدمت عشش الصفيح ومساكنهم العشوائية منذ أكثر من عامين، وإذا كانت ثورة 25 يناير قد منحت الناس في بلادنا حق التعبير عن وجودهم، فإن المستقبل القادم قد يحمل تفاؤلا بواقع مغاير يحترم إنسانية الإنسان، وفي سياق متصل اشتبكت دنيا الأراجوزات مع هذه اللحظة الفاصلة، وبعثت عبر تشكيلها الجمالي مشهدا رفيع المستوي جاء كذروة إبداعية متميزة، حيث تضافرت حيوية الأداء مع جرأة الطرح وجدل الرؤي في كشف أبعاد القسوة والجنون والمجون والاهتراء، فرغم تحذيرات المهندس من سقوط جبل المقطم إلا أن السلطة اتهمته بالجنون، وظل الناس غائبين عن المعني، مستغرقين في الجنس والحبوب الزرقاء، والدماغ والحشيش حتي سقط الجبل بالفعل، وانهارت كتل الحجارة لتستلب النبض واللحظات والحياة، ويذكر أن تقنيات تنفيذ انهيار الجبل قد تجاوزت حدود الجمال المألوف ووضعتنا أمام إبهار فكري وجمالي شديد الثراء عميق الدلالة. تمتد المشاهد وتشتعل الأحداث بالوهج ويطرح العرض اشتباكات درامية مكتملة مع أهم قضايا واقعنا الحالي، حيث الانتماء والوطن، اتجاهات الاقتصاد وشراسة الخصخصة، التعليم والأساتذة والفن والسينما، الزواج والعمل والإسكان، الصحة وسرقة الأعضاء وانتهاك الإنسان، الإرهاب والقتل والدم، ولعبة غسيل المخ وتكفير المجتمع، وعبر اقتراب النهايات تأتي اللحظة الفاصلة حين يقف الأراجوز أمام حبيبته .. يواجهها.. ويسألها بحرارة.. هل هذه هي الدنيا؟ فتنظر إليه بأسي عميق، ويقرران العودة إلي دنيا الأراجوزات الرحبة، وتنطلق الإيقاعات والحركة والرقص والمشاعر، وأغنيات الأحلام التي تدعو البشر إلي تجاوز الخوف والأسوار وامتلاك الصوت والإرادة واليقين، ويتجهان إلي عالمهما القديم، وقبل أن تغلق الأبواب يرتفع الصوت الهادر مرددا.. الشعب يريد اسقاط النظام.. وتشهد شاشة العمق ميلاد الوعي الأسطوري، حيث وقائع وتفاصيل ثورة 25 يناير، وتأخذنا الكوريوجرافيا المدهشة إلي مواجهات ساخنة بين نظام يطلب حقه من الماضي، وشعب ثائر يريد حقه في الماضي والحاضر والمستقبل، وتمتد الحالة المسرحية من الخشبة إلي الصالة، وينزل الممثلون إلي الجمهور يشعلون ثورة الجدل التي تنتهي بذلك اليقين العظيم الساكن في تيار الغناء الجميل.. لمصر والثورة والمصريين. مبررات الوجود وهكذا تنتهي المسرحية التي استغرقت زمنا طويلا بعض الشيء، لكننا نصبح في النهاية أمام تجربة ثرية تمتلك مبررات وجودها، وتأتي كابنة شرعية لزمنها الشرس العنيد. شارك في المسرحية فريق عمل من الشباب الواعد، وهم جميعا ابناء وبنات الفنان الكبير جلال الشرقاوي الذي منحهم المسار نحو بريق المستقبل، ويذكر أن بطلة العرض «هبة محمود» هي مشروع نجمة قادمة، أما نهي فؤاد، وسام صلاح، راندا جمال، جهاد محمد، وميرا سعد.. فهن يمتلكن الموهبة والحضور اللافت. ويأتي أداء فاروق هاشم، محمد رمضان، هشام عادل، محمد زكي والكوميديان مجدي البحيري، ليكشف عن طاقات إبداعية متجددة، وفي السياق نفسه كان وائل مصطفي، أحمد حمدي، هاني جمجوم، يحيي أبو زيد، حسن عبدالمعطي، محسن ياسين، هاني حمزة، أحمد الفيشاوي، مؤمن عيد، أحمد سمير ورامي عبدالمقصود، كانوا أصحاب بصمات متميزة منحت الحالة جمالا واكتمالا. كان تصميم الديكور للمهندس حازم شبل والموسيقي للفنان عصام كاريكا، والاستعراضات لعصام منير والأشعار لسيد لطفي، أما تصميم الملابس فكان لهبة طنطاوي والماسكات لمحمد أمين، وكان الأراجوز وخيال الظل للدكتور نبيل بهجت.