هناك علي سبيل المثال قناة اسمها "سما سينما" تطلق علي نفسها لقبا مجانيا هو "قناة الأسرة المحترمة"، وترفع شعارا عجيبا هو "أفلام علي ذوقك انت"، وتذيع ليل نهار إعلانات وفواصل خاصة بها (بروموهات) تقول بالنص: "أفلامنا محترمة بدون إباحية.. تتفرج عليها بدون قلق.. بنشوف الفيلم قبل منك ونشيل منه اللي يضايقك.. يعني هنسعدك من غير ما نحرجك"!! صراخ في البرية هكذا، عيني عينك، أو علي عينك يا تاجر، تعلن قناة فضائية بكل ثقة - ولا أريد أن أقول بجاحة - أن القائمين عليها يشاهدون الفيلم قبل عرضه ويحذفون منه ما يضايق المشاهد.. ولا تسل كيف يتسني لهم، دون غيرهم، أن يعرفوا ما الذي يمكن أن يضايق هذا المشاهد، ومن عينهم أوصياء عليه يحددون ما يشاهده وما هو ممنوع عنه.. والأهم: من منحهم أصلا حق تشويه الأفلام والحذف منها؟ وهل يتم ذلك بالاتفاق مع منتجي الأفلام، الذين يتعاقدون مع هذه الفضائيات لعرض أعمالهم، أم لا؟ أسئلة لا ننتظر إجابات عنها لأننا اعتدنا في مصر أن نصرخ في البرية من دون أن يهتم أو يبالي أحد. قناة أخري هي "سيما" أقدمت، وصدق أو لا تصدق، علي تشويه فيلم كوميدي خفيف مثل "إسماعيل ياسين في مستشفي المجانين"، ليس فيه - ولا يمكن أن يكون فيه - ما يؤذي أو يجرح مشاعر أحد، حيث حذفت رقصة لفتاة كومبارس في صالة مستشفي المجانين، أثناء انتظار "حسونة" (إسماعيل ياسين) دوره في الدخول لمدير المستشفي (عز الدين إسلام)، بالإضافة للقطات أخري.. هذا هو المستوي الذي وصلنا إليه، أصبحنا نحذف من الأفلام الكوميدية، والتدهور الذي تشهده جميع القطاعات الفنية والثقافية، طال حتي ذائقة الرقباء، أو من نصبوا أنفسهم رقباء في غفلة من الزمن. عجائب وغرائب وفي ظل التدهور العام، وأجواء الهوس الديني، فإن غرائب وعجائب الفضائيات لا تنتهي ، ولا يبدو أنها تهم أحدا من المسئولين عن الإعلام المصري، بدليل أنهم يتركونها تواصل ترهاتها من دون رقيب أو حسيب ، رغم أنها تبث علي القمر المصري ، ولعلهم غير قادرين أو غير مؤهلين للمراقبة والمحاسبة . ومن الغرائب، شرائط الرسائل القصيرة الدائرة أسفل معظم القنوات ، وهي فضيحة حقيقية تصل إلي حد الدعارة والدعوة إلي الفجور والفسق ، فمعظمها نداءات بحث عن الأحبة وإجابات عن هذه النداءات بين الفتية والفتيات ، وكل فتاة تعدد مزاياها ومميزات شكلها في بحثها عن الشريك ، وكأننا في سوق نخاسة . ويضاف ذلك إلي إعلانات المنشطات الجنسية المبتذلة الفجة التي تعرض علي أطفال البيوت من دون حرج. كما تستغل إعلانات الفضائيات رغبة البسطاء في الإنجاب أو في الشفاء من الأمراض المستعصية وتبيع لهم أدوية "بير السلم" الوهمية التي لا يعرف احد من أين جاءت أو كيف صنعت أو كيف وصلت إلي شاشات التليفزيون في قلب بيوت الناس .. هناك علي سبيل المثال إعلان عن دواء للإنجاب من علبتين زرقاء للرجل وصفراء للمرأة ، وفي الإعلان صاحب الشركة يقول للزوج المكلوم إن مشكلته ستحل بعد 21 يوما، هكذا من دون كشف ولا تحاليل ولا أشعة ولا محاولة لمعرفة سبب العقم ، فالدواء المعجزة سيتغلب علي جميع أنواع الأسباب والمعوقات من دون الحاجة إلي طبيب.. ومنذ متي يحتاج النصابون والمشعوذون إلي أطباء؟ علاج ناجع ورغم معرفة الجميع بأن السكري مرض يصاحبه المصابون به عشرات السنين لصعوبة الشفاء منه ، إلا أن إعلانات الفضائيات وجدت فجأة وفي غفلة من العالم علاجا ناجعا للسكري يقضي عليه خلال أيام أو أسابيع من تناول البرشام السحري، ولا أعرف لماذا لم يحصل مخترع هذا الدواء المعجزة علي جائزة نوبل للطب حتي الآن رغم أن اختراعه لم يتوصل إليه أحد، ورغم أن الذين يحصلون علي نوبل لا يصلون إلي هذا الحد من النبوغ؟ وقد سلم الجميع أيضا بأن البهاق والصدفية من الأمراض الجلدية التي يصعب الشفاء منها، إلا أن إعلانات الفضائيات وجدت لها حلا ودواء يقضي عليها قبل أن يرتد للمصاب بها طرفه .. ومن ناحيتهم، ارتضي المصابون بالصلع الأمر الواقع وبدأوا يعددون مزايا الصلع، إلا أن إعلانات الفضائيات تصر علي أن تجد لهم الحل السحري وتعرض عليهم صور من كانوا مثلهم ثم أصبحوا مثل حسين فهمي بعد أن استخدموا دواء الصلع .. أين الأجهزة الرقابية من هذا الهراء الذي يصب ليل نهار في عقول المشاهدين؟ أين وزارة الصحة المسئولة عن صحة وحياة الناس من هذه الأدوية الوهمية التي يمكن أن تقتل أو تشوه من يستخدمها؟ صكوك الغفران ورغم خطورة وابتذال وسوقية هذه الإعلانات، إلا أن هناك ما هو أخطر منها بمراحل ، وأقصد الإعلانات الدينية ، التي تتعلق بمعتقدات الناس ، ومن شأنها تدمير المجتمع كله ، من صغاره إلي كباره ، إذا لم يتم التصدي لها .. وتعيدنا هذه الإعلانات، وهي جزء من هجمة إعلانات «الزيرو تسعمية» التي انتشرت في إعلامنا كالطاعون ، إلي زمن صكوك الغفران التي كانت تصدرها الكنيسة في أوروبا العصور الوسطي ، والتي كانت توهم الناس بها بضمان دخول الجنة إن دفعوا قيمة الصك .. فهذه الإعلانات تقول بالحرف الواحد : اتصل برقم كذا واحصل علي أفضل الأدعية والأذكار .. اتصل واتأكد إن مفيش حسنات هتفوتك !! هكذا .. بكل بساطة .. يزعم البعض أنهم قادرون علي تأميم كل الحسنات لصالحك وإدخالك الجنة .. المهم أن تتصل ، أن تدفع ! ومهما كنا ضد الرقابة وضد فرض أي قيود علي الإعلام، فإن تجاوزات خطيرة كهذه تستوجب وجود أي نوع من الرقابة لإيقافها عند حدها ومنعها من التلاعب بعقول ومشاعر الناس .. فإذا كانت نسبة المتعلمين قد زادت وتراجعت في المقابل الأمية ، فمازال هناك أميون يجب حمايتهم من هذه الخرافات، ومازال هناك متعلمون دراويش يجرون وراء أي وهم ديني ويسعون بالفعل للحصول علي كل الحسنات والتأكد من عدم تفويت أي واحدة ! وأعتقد أنني لست بحاجة إلي التأكيد علي رفضي للرقابة بشكل عام ، وإيماني التام بحرية الإعلامي في أن يقول ما يشاء ويعبر عن رأيه كيفما أراد، طالما التزم برقابته الداخلية التي تحدد له ما يجوز تقديمه وما لا يجوز بطريقة أفضل من أي جهاز رقابة مهما بلغت كفاءته .. لكن الخطوط الحمراء معروفة ، خاصة أننا نتحدث عن التليفزيون الذي يدخل كل البيوت بأطفالها ومراهقيها ونسائها، وليس عن السينما التي تملك هامشا أكبر من الحرية طالما يذهب إليها المشاهد بقدميه ولا تقتحم هي عليه بيته .. وكالة من غير بواب ولا أطالب فقط بوجود رقابة علي هذه الفضائيات ، لكن أدعو أيضا إلي تدخل المؤسسة الدينية وعلي رأسها الأزهر الشريف لوقف هذا العبث فورا ، وهو دور أعتقد أنه من واجب الأزهر أن يؤديه ، تماما مثل الدور الذي ننتظر أن تؤديه وزارة الصحة تجاه إعلانات الأدوية المضروبة في الفضائيات .. وفي هذا الصدد لا أعرف إن كانت هناك رقابة أي رقابة علي القنوات الفضائية التي تبث علي القمر المصري نايل سات .. لكن إن كانت هذه الرقابة موجودة ، فهي عاجزة أو متخلفة أو غير قادرة علي القيام بدورها .. وإذا كانت غير موجودة ، فإن السؤال المطروح يصبح : ماذا يحكم هذه القنوات؟ وما اللوائح والقوانين التي تسير عليها؟ وماذا يحمي المشاهدين من سخافاتها وتجاوزاتها التي تخطت كل الحدود؟ للأسف الشديد، تحولت الفضائيات إلي سويقة، ووكالة من غير بواب، وجماعة بلا قدوة، والشخص الذي من المفترض أن يكون القدوة، وهو سامي الشريف، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، لم يقدم لها أي مثال يحتذي سوي قراره العجيب بحذف القبلات والمشاهد "الساخنة" من الأفلام المصرية، حتي لو كان قد تراجع عنه فيما بعد.. واعتبر كلماتي هذه بلاغا للرأي العام وأيضا للنائب العام، قبل أن تحرق نيران الهوس الديني كل ما هو جميل في حياتنا.