لم يبق خيار .. سقط الجواد من الإعياء.. إعياء الكر والفر في رحلة إبداع عميقة ومنهكة.. لا مفر فقد غاب النهر ورحل المطر. قد كان «أسامة» نهرا من العطاء الفني الذي لا يجف ولا ينضب ولا يغيب.. وفيضا من موهبة تشرق وتتلألأ لا تخبو ولا تخفت... ومطرا ينبت اشجارا وزهورا من الإبداعات الباقية .. دررا في أحداق الفنون الراقية .. وهل يدري البحر قدر الدرر؟! كل الأحبة يرتحلون .. لكن يبقي رحيل سيد الدراما التليفزيونية وفارسها الأصيل وحارسها الأمين .. وراعي مصالحها الغيور رحيلا مفجعا وموحشا وغادرا فالنخلة الوارفة كانت - وحتي الرمق الأخير وإن وهن الجسد وتقطعت الأنفاس - تعدنا بكنوز مخبوءة وهدايا باهرة، وثمار مدهشة فالنبع يشي بوهج لا ينطفئ .. وزهرات البساتين تشتاق إلي زهرات جديدة من نار تألق وإبداع .. فهل ننعي الزمن الضيق أم ننعي زهور البساتين؟! كان «أسامة» يكتب المسلسل الأعصار .. والمسلسل الزلزال.. والمسلسل العاصفة فيتنزع الأشكال من اشكالها.. ويزعزع الأشياء من مكانها .. ويصدم الوعي في وعيه.. ويهز الافئدة في أعماقها.. يغرس سكينة بصدر العصر.. فيكشف الزيف.. ويعري الوجوه من اقنعتها الشمعية.. وعيونها الزجاجية.. فهو يتعمد بماء الجرأة والجسارة، فيحرق جسور الدعة والطمأنينة لدي المتلقي.. ويلقي به في أتون خطر المعرفة ودهشة الأسئلة .. يقفز فوق الأسلاك الشائكة .. ويخترق كل الخطوط الحمراء.. فهو لا يجيد التنكر ولا يعرف المساحيق المضللة.. ويخاصم القبح.. وليس ينوي حذف كلمة واحدة كتبها.. سواء في أعماله الدرامية أو مقالاته النارية - إن جاء يوم الحشر.. وليس ينوي حين يأتي النزال أن يغمد حسامه أو يستجيب لمهادنة أو يميل إلي ترضية .. فهو يدرك كيف يكون الموت في الكتابة ومن ثم يكون الموت في الدفاع عن الكتابة. بالأمس القريب كان يملأ الدنيا من حولنا.. فأنت تجده منذ أن تفتح عينيك في الصباح يطالعك بعينيه الثاقبتين المتحفزتين وملامحه الجادة التي تشي بود لا تخفيه صرامة ظاهرة. يدعوك فورا إلي مشاركته معركة سياسية من خلال مقال متوهج صادم .. وما إن تنتهي من القراءة حتي تكتشف أنه قد ضحك عليك فدعوته لمشاركتك لم يكن الهدف منها اثارة جدل حول قناعاته بل تحريضك علي الموافقة والاستسلام لمنطقه فإذا ما طويت الجريدة التي يطالعك من خلالها وأمسكت بأخري حتي يبرز لك بمقال يثير قضية فكرية مهمة ينجح في أن يجعلها تستولي علي كل اهتمامك بل يدفعك بطريقة طرحه الفريد لها إلي أن تسيطر عليك مشاعر الدهشة.. فتتساءل بينك وبين نفسك لم أصابتنا الغفلة فلم ندرك من قبل أهمية تلك القضية لنناقشها .. انه مفكر تؤرقه تفاصيل الواقع المعاش مثلما تؤرقه قضايا الفكر الشاملة.. ومصدر الجاذبية هنا أنك لا يمكن أن تضبطه إلا صادقا في مبادئه.. ومحال أن تجده إلا أمينا مخلصا متجردا من الهوي أو الضعف الإنساني الذي يسوق غيره إلي التلون أو المهادنة أو السباحة مع التيار.. إن الاتساق البديع بين ما يحمله في سويداء قلبه.. وبين ما يطرحه من سطور شجاعة مقتحمة هو مفتاح لغز فتنة العقول بإبداعاته. فإذا ما نويت أن تنحي القراءة جانبا .. وتفتح التليفزيون فليس لديك من أسلحة تجرؤ بها أن تكابر فلا تتابع مأخوذا تحفة مسلسلة له.. انه يشدك إلي عالمه الأثير الذي أخلص له عمرا توج خلاله أميرا علي عرش إمارة لا تقبل المشاركة وتستحي المقارنة.. وتستعصي علي الخلع. كتب للتليفزيون ما يقرب من ثلاثين مسلسلا بالإضافة إلي عشرين سهرة درامية .. وللكم هنا دلالته التي لا تتناقض مع الكيف بل تدعمه وتؤكد أن القريحة فياضة والموهبة دفاقة. وكل مسلسل يمثل رحلة، فليالي الحلمية هي رحلة البحث عن الهوية المصرية من خلال تاريخ وطني .. و«أبوالعلا البشري» يمثل رحلة «دون كيشوت» القادم من زمن مختلف ليواجه مجتمعا فظا لا أخلاق له.. وفي «ضمير أبلة حكمت» تخوض البطلة رحلة صراع الشرف والضمير بشموخ وإباء في مواجهة البلادة والتسيب.. وفي «الراية البيضاء» تدور المنازلة بين القبح والجمال .. وفي «زيزينيا» يبحث البطل عن سر وجوده .. وفي «امرأة من زمن الحب» تتجسد رحلة البطلة في تمسكها بمبادئها في زمن اختلت فيه القيم. فإذا ما أردت الفكاك من أسره أو التمرد علي هيمنته فليس أمامك سوي الهروب إلي مجال تتوهم أنه بعيد عن مضماره وليكن المسرح .. ولكن أي مسرح تريد أن تشاهده؟! طبعا أنت تستبعد المسرح التجاري، وتهفو إلي رؤية عرض مسرحي يخاطب عقلك.. ويثري وجدانك.. إذا فهو يدعوك إلي الاستمتاع بمشاهدة رائعته «الناس اللي في الثالث» التي يستدعي فيها حقبة تاريخية كثر الجدل حولها، فيأسرك بطرحه الجاد الذي يصوغه في قالب درامي خلاب .. دون أن يلتفت - وهو يطرح رؤيته- إلي غمز ولمز .. لغو ولغط متعهدي توزيع الاتهامات والتشكيك في الانتماءات أو التلميح بالتراجعات «فالفن واسع وعقول الناس هي الضيقة».. وإن كان بصفته مقاتلا صنديدا متمرسا لا يفتأ ويخوض نزالا داميا مع معارضيه .. تعودت ألا أشفق عليه فيه من استهلاك طاقته وتبديد وقته وتعطيله عن إبداعاته.. فليس غير «أسامة» قادر علي تحقيق ذلك التوازن الدقيق بين أزمنة الإبداع وأزمنة العراك. هل تريد دليلا علي ذلك ؟! حسنا إنك ما إن تشهد له بالبراعة في التأليف المسرحي .. ذلك المجال الذي لم يكن يحسب ضمن فرسانه، فإنه سرعان ما يباغتك ويخرج لك من جرابه الساحر روايتين دفعة واحدة هما «منخفض الهند الموسمي» و«وهج الصيف» - والتي شرفت بكتابة السيناريو والحوار لها كمسلسل - فإذا ما أبديت دهشتك أسكتك بإعلانه أنه أخيرا قد عاد إلي عالمه الأثير ومياهه الدافئة التي طالما اشتاق إلي معانقتها وعطله عنها تعاقداته التليفزيونية ومن ذا الذي يملك حق حرمانه من زيارة وطنه الأول .. أرض الأدب المقروء.. حبه الأول الذي يصفه في تعبير بليغ بأنه «يلامس عصبا حساسا في أعماقه، فإذا ما ساورك الشك أن تطاول قامة روايتيه ابداعه المرئي- وإن كانت المقارنة هنا لا تجوز - يستشعر هو معك نفس الهاجس.. لأنه يكتب لك ويستهدف في المقام الأول أن تصلك رسالته.. وإن كان يهمه أيضا بدرجة عالية أن يحقق مستوي فنيا متميزا يزهو به ككاتب كبير يعنيه أن يظل مقامه محفوظا بين الكبار .. والناس مقامات يقول في مقدمة روايته «منخفض الهند الموسمي» كان التحدي الحقيقي أن أثبت لنفسي قبل غيري أن قلمي الذي ابتعد عشرين عاما عن القصة والنص الروائي لم يعقم ولم يغترب.. وأنه مازال قادرا علي أن يخوض بي تجربة مغامرة روائية أحلم بها منذ سنوات. وما إن تنتهي من قراءة الرواية حتي يستولي عليك الذهول فبالإضافة إلي عمق الرؤية المطروحة وأهمية مضامين المحتوي بأبعاده الفكرية والاجتماعية والنفسية والذي يعكس قدرة فائقة علي قراءة ورصد وتحليل الواقع المعاش وحركة المجتمع - في تعرية كاملة- ومواجهة عاصفة مع أمراضه وعوراته .. أقول إنه بالإضافة إلي ذلك، فإن المبهر حقا تلك الصياغة التي يتوهج فيها تلاحم الشكل بالمضمون.. والفكرة مع الحبك الدرامي وعذوبة العبارة مع الرسم الحاذق للشخصيات وتنامي الصراع مع القدرة الفائقة علي ضبط الإيقاع المتدفق .. وتزاوج صور بلاغية وبيان بديع ذو جرس خاص غير متكلف مع معان ذات دلالات خاصة في سياق لا يعطل حدثا ولا يعوق تطورا دراميا. لذلك فإني حينما صارحته بمدي شكي في صدق ما ردده في أحاديثه الصحفية بأنه كان ينشر الرواية فصلا بعد فصل في «الجمهورية» وأول بأول دون أن يعرف مسبقا ما الذي ستجود به قريحته لاستكمال مسار روايته .. قال لي بتواضع جم وبنبرة عفوية فلاح مصري مازال يحتفظ بفطرته النقية: «حا أعمل لك أية ؟! .. مش عاوز تصدق .. أنت حر.. لكن هي دي الحقيقة..». رحل «أسامة» كما عاش منتصبا كزهرة لوتس لا تنحني.. وفرسا نافرا في الغمام.. لكن أعماله لن تموت.. ستظل شاهدة علي العصر.. شفافة كأدمع الربابة متوهجة كشموس من نار .. عميقة كغابة.