رحل الرجل الذي صال وجال في دنيا الرواية صاحب ايام المنيرة وقهوة المواردي وعطفة خوخة والقضبان وبنت افندينا وثلاثية الكهف والوهم والحب, رحل المبدع الذي يستحق بحق أن نقول عنه إنه فارس البسطاء لقد كان جلال يبحث في أحياء القاهرة وضواحيها, في قلب كل حارة وزقاق عن معني كلمة مصر التي عشقها قلبه عشقا جما بكل الحب وقضي ثمانين عاما هي عمره الحافل بالابداع في رسم ملامح شخصيتها وتمجيد أهلها فرأينا نحن كل محبيه وقرائه بلغة الضاد هذا البلد وأهله وقضاياه وأحلامه وشهامته لأن محمد جلال لم يكن كاتبا تجريديا يلعب باللغة أو يبحث عن شكل زخرفي ينال اعجاب المتخصصين بقدر ماكان نهرا متدفقا بحالة ابداع سردي ناضج جارف يجري معانقا العيون التي كانت تتابع انتاجه بشغف سواء أكان هذا الانتاج مسطورا في صفحات ناصعة البيان أم منظورا علي الشاشة الذهبية والفضية. كان الرجل يكتب للجمهور, للناس كافة وكانت الدراما في الاذاعة والسينما والتلفاز تنتظر إبداعه لتحوله إلي أفلام ومسلسلات فدخل كل بيت عربي وخاطب أهله وجالسهم في الخامسة والربع مع المسلسل الإذاعي الكلاسيكي الشهير الذي مازال يجذب عشاق الخيال وفي السابعة أيام التلفاز الأبيض والأسود قبل أن تتعدد ساعات الإرسال واسماء القنوات, كان محمد جلال من مؤصلي الواقعية بكل مافيها من معني فهو يبحث عن الذين ينساهم التاريخ ويغفلهم سكان البرج العاجي, يمشي الرجل البسيط مسامرا أهل السيدة زينب ذاك الحي الأصيل الذي عشقه بقلبه وعقله معا وظل قريبا منه طوال عمره مما يذكرنا بالأديب الكبير يحيي حقي صاحب القنديل ويوسف السباعي الذي روي حكايات مايحدث بين أبو الريش وجنينه ياميش. إن نهر مصر لن يجف فهو ينطلق متجددا كل يوم بروافد جديدة ولكن هذه الروافد تنهل في سيرها من عبق الاصالة التي يعد محمد جلال أحد أعلامها المجيدين, فالرجل اتخذ من نجيب محفوظ أستاذا له يسير علي هداه ويقتدي برؤيته وكان تجديد محمد جلال متحركا في متابعته الحريصة كل الحرص علي الاقتراب من قضايا العصر مهما كانت شائكة فقد كشف مايحدث في كثير من المؤسسات من فساد وزيف عبر اعمال درامية تعرضت لمجتمع ماقبل ثورة يوليو1952 م بقوة ورؤية نقدية مثلما نقدت مجتمع الثورة دون مجاملة وكان الانسان هو همه لذلك وثق فيه القارئ والمشاهد مهما تعرض الرجل للنقد أحيانا والنكران في بعض الاحيان. وقد تميز اسلوب محمد جلال بالايقاع الجميل الذي يتسلل إلي أذن المتلقي ولعل هذا من اسرار نجاح مسلسلاته في الاذاعة قبل التلفاز لأن أديبنا كان مثقفا ثقافة عالية فقد قرأ للمنفلوطي وحفظه وللرافعي وأعجب به وللسحار وتأثر بمعالجاته للقضايا الاجتماعية ولطه حسين واتخذ من بيانه الناصع المسهب روحا دافعة لتيسير اللغة, لكن نجيب محفوظ ظل دائما الدليل الذي يسير معه محمد جلال بمحبة وصمت دون أن يدعي أنه قريب منه أو يبحث عن شهرة من ترديد اسم محفوظ في الأوساط الأدبية تاركا للقراء مهمة اكتشاف سيره علي نهج شيخه الكبير وشيخ الروائيين العرب. كان الصراع بين المال والفكر أو بين الاصالة وزحف التقليد الأعمي أو بين القيم التي تحمي النسيج الاجتماعي وقيم الاستهلاك التي تتربح ولو كان ربحها من الهواء والوهم هو المجال الدرامي المحبب لمحمد جلال فقد كان يجد نفسه في كل مايحمي الميراث الحضاري للثقافة الجمعية التي اكسبت هذا الشعب هويته وحافظت له علي ملامحه الروحية والسلوكية في رحلته التاريخية الطويلة العريقة, وكانت هذه الثنائيات تسمح لمحمد جلال بابتكار شخصيات الصراع التي يعيش معها المتلقي وكأنه يراها من حوله فهناك المتسلط الذي يقهر أهل حيه والمستنير الذي يرفض العزلة ويأخذ بأيدي من حوله في طريق النور وهناك النفعي الذي لايملك قيمة حقيقية ولكنه طفيلي يستولي علي ماعند الآخرين وهناك من اعتاد فن العطاء هناك المخلص في صداقته والآخر الذي لايحفظ حقا لأخ أو صديق أو جار أو شريك حياة. لقد شهدنا جميعا رائعته الكهف والوهم والحب وكانت حافلة بالنماذج البشرية المعبرة عن قصة الانسان في التاريخ من جهة والمسيرة التنويرية لمصر المعاصرة من جهة أخري وقد كتبها علي نسق ثلاثية محفوظ الشهيرة( بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية). وقد حضرت منذ نحو عامين رسالة دكتوراه عن اعمال محمد جلال في كلية الألسن بجامعة عين شمس وقد سعد الاديب الكبير يومها سعادة غامرة بمعالجة اعماله في الاوساط الاكاديمية, وكم حضرت معه وشاركني في الأمسيات والندوات فقد كان صديقا عظيما عطوفا طيب القلب وكأنه طفل كبير لم يقف في سبيل أحد وكان يسعد بالكلمات الطيبة ويكاد يطير في السماء وهاهو ذا اليوم يحلق في عالم الغيب والشهادة تاركا لمحبيه واصدقائه وعشاق الكلمة كنوزا لاتنسي.