كان ذلك عام 1949. كنا خمسة أصدقاء يتلقون تعليمهم بمدرسة شبرا الثانوية، وقد كان قصر الأمير طوسون. أولنا يهوي الموسيقي، «ينط السور» حسب تعبير ذلك الوقت ويهرع إلي محطة الترام، لينتهي به المطاف في معهد الموسيقي العربية، حيث يتلقي دروس العزف علي العود. اسمه بليغ حمدي. أما الثاني فكان من هواة التمثيل ينط السور معنا ويذهب إلي فرقة هواة تمثيل ملحقة بمصنع اسمه أبوالفتوح عمارة. أما الثالث فكان أكثرنا صرامة ينظر إلينا نظرة الحكيم توت أيام الفراعنة، وكأننا من المارقين، أما هو فكان عاكفا علي كتب النحو والعروض والبلاغة، كي يصبح فيما بعد الدكتور عبدالمحسن طه بدر. أما الرابع فكان مثلي مولعا بالأفلام الأوروبية وكانت القاهرة تعرض نفس الأفلام التي تعرض في باريس أو روما أو أي عاصمة أوروبية، سينما بيجال تعرض الأفلام الفرنسية ، بينما ميامي تعرض الأفلام الإيطالية وفي الصيف تحتل الأخيرة مركز الصدارة. ثم بين الحين والآخر يمكننا مشاهدة فيلم أمريكي لا أفلام الكاوبوي ولا المشاجرات داخل البار لتنتهي بخطف غادة حسناء مثيرة للحواس كلا، بل أروع ما أخرجه أدرسون ويلز أو إيليا كازان. كان هذا الولد الشقي كما كان صديقنا ورفيق رحلة العمر محمود السعدني، يطلق هذا اللقب علي نفسه: «الولد الشقي» كان زميلي هو أول ولد شقي، اسمه: «عبدالنور خليل». لا هو، ولا أنا تعلمنا السينما في معاهد أو جامعات، حتي عندما اضطررت للهجرة إلي فرنسا، ونصحتني الصديقة كاترين تاسكا وزيرة الإعلام عام 1977 نصحتني بأن أسجل موضوعا بقسم الدكتوراه بالسربون، والقانون لا يبيح تسليم شخص إذا كان يواصل بحثا علميا، أقول حتي في فرنسا كان أساس كل العلوم المتعلقة بالإخراج السينمائي قد تمثلناه قبل أي جامعة، عبدالنور خليل وكاتب هذه السطور. الواقعية الجديدة عرفنا أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية من خلال مشاهدتنا للفيلم الواحد عدة مرات، دموعنا كانت تسيل ونحن نشاهد رائعة ليتوادا «الأرز المر» Rezzo Ameno وكنا ننتفض ثورة علي النظم السياسية والاجتماعية في أوروبا التي تسحق الطبقة العاملة، والحافز هنا أفلام مثل: «سارق الدراجات» لفيتوريو دي سيكا. أيضا كنا نعرف الطريق إلي تكوين جبهة وطنية مناهضة للاستعمار البريطاني، وذلك من خلال أفلام بروسيلليني الأولي «روما مدينة مفتوحة» و«رحلة في إيطاليا» و«الأرض تزلزل». في الوقت ذاته تفتح وجداننا علي الموسيقي الأوروبية وخاصة تلك القائمة علي النظام السيمفوني، تعلمنا ذلك من خلال أفلام مثل: «ليست، وشوبان، وأوبرات مثل قوة القدر» لفيردي، وتنويعات علي هارمونيات النغم، مثل توكاتا باخ أو البيانو الناعم تماما، وأيضا العديد من أنواع الباليه الكلاسيكي، أو الأمريكي المودرن، مثل: «السابحات الفاتنات» كان عالم السينما كله يتفاعل في كياننا. وكنا عبدالنور وأنا نتوق لنعبر عما يجيش في صدورنا ليشاركنا الآخرون حب السينما وما يصاحب ذلك من تذوق للموسيقي أو للوحات الفنانين التشكيليين. نط السور ذات يوم ونحن «ننط سور» المدرسة وكنا في السنة الرابعة التي تنتهي بشهادة «الثقافة» وبعدها بعام واحد نحصل علي شهادة التوجيهية، تماما مثل نظام التعليم الفرنسي. أقول: ذات يوم ونحن ننط السور عرض علي عبدالنور أن نذهب إلي صحيفة المصري، ليقدمني إلي صديقه الناقد عثمان العنتبلي. وصحبته ومن خلال المناقشات تعرف عثمان علي ما في رصيدنا الثقافي من وعي بمفردات العمل السينمائي، وكان وقتذاك قد وقع عقدا مع صاحب دار مسامرات الجيب وروايات الجيب، ليرأس تحرير مجلة «الاستديو»، ودعانا عثمان للمشاركة في تحرير الاستديو. تولي عبدالنور تقديم وتحليل الأفلام الأجنبية وترك لي عثمان مهمة سكرتارية التحرير، ونقل التيارات الفنية في أوروبا فكان كل عدد يقدم ملخصا لأهم مسرحية تعرض في فرنسا، أو إنجلترا أو أمريكا، قدمنا العادلون لالبير كامو والذباب لسارتر، وقام عبدالنور بخبطات صحفية رائعة، إذ انتهز فرصة زيارة ريتا هيوراث للقاهرة، فأجري معها حديثا طويلا لم يكن مجرد تعريف بالممثلة الأمريكية الكبيرة، بل كان أيضا دراسة لأهم ما يتميز به الإنتاج الأمريكي ألا وهو «الكوميديا الموسيقية»، وهو نوع خاص يجد تحقيقاته في أفلام مثل: «صوت الموسيقي». هذا بالإضافة إلي النقد السينمائي الموضوعي. اجتزنا معا نحن الخمسة: بليغ، أبوالفتوح، عبدالمحسن، عبدالنور، وكاتب هذه السطور، اجتزنا التوجيهية بتفوق، وكنت قد قدمت بحثا عن هنري برجون الفيلسوف الفرنسي صاحب نظرية التطور الخلاق فقرر مجلس كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول «القاهرة حاليا» منحي مجانية التعليم طوال دراستي بالكلية، ولم اختر الفلسفة، بل الأدب واللغة الفرنسية، أما عبدالنور فإن لم تخني الذاكرة اختار قسم الأدب الإنجليزي. في مجلة الاستديو قمنا بمسح شامل للحركات والتيارات الفنية الجديدة في مصر وفي العالم. في مجال الفن التشكيلي قدمنا أعمال عبدالهادي الجزار وزينب السجيني وحسن فؤاد وغيرهم وغيرهم، وقدم عبدالنور المخرجين والممثلين الجدد وقتذاك، موريس الذي أصبح عمر الشريف، ومخرج باب الحديد الذي نعرفه باسم يوسف شاهين، كما قدم فيما بعد مخرج «درب المهابيل» توفيق صالح. السهل الممتنع كانت تلك «نواة» منهج عبدالنور، السهل الممتنع، إلقاء الضوء علي سينمائيين جدد، ثم تملكته الرغبة في أن يشاهد من يتحدث عنهم شخصيا كيف؟ من خلال مهرجانات السينما العالمية. ظل عبدالنور يقتصد من مصروفه عاما بأكمله حتي استطاع أن يدفع ثمن التذكرة ذهابا وإيابا من القاهرة إلي نيس، ثم يعبر إلي مهرجان كان السينمائي الدولي. كان ذلك عام 1950 ومن وقتها وحتي لفظ أنفاسه الأخيرة لم ينقطع عبدالنور خليل عن التواجد في كبريات مهرجانات السينما الدولية: كان فينسيا كارلوثي فاري وغيرها وغيرها. لم يكن التعرف علي الطفرات التي تحدث عاما بعد عام في لغة التعبير البصري السمعي هي شغفه الوحيد، بل دفع أكبر عدد من قراء الصحف إلي متابعة تلك المهرجانات من خلال نقل صورة متكاملة عنها. وتنقل عبدالنور من مجلة إلي صحيفة، حتي استقر في دار الهلال محررا فنيا للمصور الأسبوعية ومن وقتها وحتي أسبوع واحد فقط لم ينقطع عبدالنور خليل عن ربط المصريين بعالم الإبداع السينمائي. الأداء التمثيلي في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي العام الماضي كنا نلتقي عدة مرات يوميا في المطعم في مشاهدة العروض وعندما يختفي عبدالنور عن بصري أعرف أين أجده: في أسفل الفندق بكافيتيريا الخديو وقد أحاط به عشرات من الشبان والفتيات، يريدون معرفة فن الأداء التمثيلي أو التصوير أو الإخراج، من خلال ما شاهدوه من أفلام طوال ثمانية أيام هي مدة المهرجان. كان يؤمن بأن اللقاء الحي والحوار أهم بكثير من كتابة مقال لكنه في الوقت ذاته كان يجمع من كل أرشيفات العالم ما يريده لكتابة مقال هنا أو هناك، والأهم من ذلك كتابته كتابا بأكمله عن شخصية سينمائية، يعرفها الجمهور من خلال نتاجها الكامل لكنه لا يعرف كيف تحقق ذلك النتاج. عبدالحليم، ثم سيندريللا الشاشة المصرية سعاد حسني ثم.. ثم.. ثم العشرات من نجوم السينما، أنه يدخلنا إلي عالم مسحور، لكنه يزيح القناع عما بداخله من صعوبات وإرهاق وحقد وفرح وكراهية وتعاطف، يزيح القناع عن حياة العمل الفني ثمرة عشرات الجهود تنتهي كلها بفيلم. لدي الكثير أقوله عن عبدالنور إلا أنني لم أستطع أن أحبس دمعة لا تكاد تجف بين الجفن والمقل. وداعًا رفيق رحلة العمر