في أيام شبابي الأولي، وبدايات اهتمامي بالأفلام كنت أختال علي أقراني بما لدي من معلومات سينمائية محدودة وما أمكنني مشاهدته من أفلام مهمة ونادرة أتاحها لي ترددي المبكر علي جمعية الفيلم.. ولكن في إحدي المرات دعاني صديق لحضور فيلم بمعهد جوته، تعقبه ندوة لفوزي سليمان. وعندما سألته " من هوفوزي سليمان؟ "، كانت فرصة للزميل ليحطم غروري ويسخر من جهلي بشخصية شديدة الأهمية في مجال الثقافة السينمائية. كان فوزي سليمان ولا يزال أستاذا كبيرا ورجل ثقافة من الطراز الأول. أدمنت حضور ندواته، وأدركت من خلالها الأهمية الكبيرة لشخص مدير الندوة وطبيعة دوره في صناعة الثقافة وتنمية وعي الأجيال من خلال قدرته علي قيادة دفة الحوار وكشف مناطق الجمال وعمق الأفكار في الأفلام. إنه بأسلوبه البسيط يسترسل في سرد فيض من المعلومات عن الأفلام وفنانيها. ويمنحك الطمأنينة بحديثه العفوي وصوته الهاديء، فيدعوك دون أن تشعر لتتحدث بحرية وجرأة. تداعت هذه الذكريات إلي رأسي وأنا أقرأ كتابه الممتع (حوارات فوزي سليمان في الأدب والفن والسينما والمسرح والموسيقي). بداية الرحلة توضح المقدمة كيف بدأت رحلته مع الثقافة بإجراء حوارات بتكليف من أستاذه د. شكري عياد. وكانت البداية الناجحة هي نقطة الانطلاق لمسيرة حافلة. استطاع فوزي سليمان خلالها أن يحيل كل خطوة خطاها أوخطها له القدر إلي سلمة نحوتطوير وصقل تجربته الثقافية، في سبيله لأن يلعب دورا حيويا لأجيال من هواة الفن والإبداع، منهم من أصبحوا من كبار نقادنا وفنانينا. عبر صفحات هذا الكتاب سوف يقودك فوزي سليمان إلي رحلة نصف قرن بالتمام والكمال داخل عقول وقلوب مجموعة من كبار الفنانين والأدباء والمفكرين في مصر وشرق العالم وغربه. سوف تدرك خلالها قدرة مرشدك وموهبته في هذا المجال وتمكنه التام من أن ينقل لك خلاصة خبرات محاوره وجماليات فنه، وأن يضيف إلي مفهومك ومعرفتك الكثير بلغة قوية وأسلوب بسيط وعبارة رشيقة. من أقصر الطرق يدخل بك إلي عالم الشخصية، ويصور لك بأسلوب سينمائي مختزل المحيط الجغرافي والأجواء التي تشكل جزءا من روحها. في مستهل حواره مع ميخائيل نعيمة يقول " مررنا بوادي الجماجم، لم أر فيه - رغم خطورة الطريق ووعورته - نذيرا للموت..كان وادي الطبيعة الرهيبة..وادي الروعة، بل كان بشيرا أننا اقتربنا من قرية بسكنتا.نعم هي بسكنتا، فجبل صنين الأشم يطل علينا من فوق. قمته التي تشبه رأس إنسان يغطي أعلاها السحاب. تذكرت قول نعيمة عن جبله (صنين عرش طهارة يبدوعليه وجه الله سافرا).. وترجلت أسعي إلي منزل الأستاذ فوجدته ينتظرني في بدلة بسيطة، وابتسامة مرحة. وجلسنا في الشرفة. ملأت صدري بالهواء الطيب. وكانت البساتين المتناثرة تبعث إلي برائحة الزهور والتفاح والكرز. " خلاصة التجارب وهوينقل إليك خلاصة قراءته وثقافته وإحساسه بموضوعه ليجعلك تطل علي الشخصية من زاويته القريبة الحميمة. هكذا يبدأ في حديثه عن ناظم حكمت " كان قد وقع في يدي - ضمن ما يقع فيها من كتب - مجموعة من القصائد الرقيقة مترجمة للشاعر التركي الإنسان ناظم حكمت. وقد استطاعت هذه المجموعة أن تثير في نفسي كل ما يمكن أن تثيره من مشاعر وأحاسيس إنسانية فياضة، فهي رقيقة عذبة عميقة ثائرة، تنبض بالحياة..الحياة علي حقيقتها..حياة الإنسان..إنسان القرن العشرين، بكل ما تحفل به من نضال وصراع، ومن خير وشر ومن عرق ودموع في سبيل حياة أفضل ومستقبل أسعد. استطاع هذا الرجل أن يتغلغل إلي أعماق النفس البشرية وأن ينطقها شعرا كأروع ما يكون الشعر رقة وقوة. ".. وهوقادر بمنتهي التركيز والتكثيف علي أن يصور لك قيمة الشخص ومكانته سواء من خلال تعريفه بتاريخه وأعماله أوبنقله أهم ما كتب عنه، فعن الشاعر ليوبولد سينجور رئيس جمهورية السنغال يكتب " يقول سارتر إن شعراء أفريقيا يجدون في قارتهم مصدرا خصبا للإلهام كالإعصار.. وكان علي سن قلم سارتر وهويكتب عن الشاعر الأفريقي الكبير ليوبولد سيدار سنجور خير من عبر عن الروح الأفريقية في شعره الذي شق طريقه للمجال العالمي. والرجل اشترك في النضال الوطني في بلده حتي وصل إلي الرئاسة. " لا يكتفي فوزي سليمان بعرض حواره مع ضيفه ولكنه كثيرا ما يضيف من ذاكرته وأرشيفه الهائل جوانب من حواراته السابقة غير المنشورة، قد يختم بها حواره بأسلوبه المؤثر الجذاب كما فعل في حواره مع نجيب محفوظ : "وأترك أديبنا الكبير وفي أذني تتردد كلمات سمعتها منه في أولي جلساتنا حينما كنا نناقش مسئولية الأديب ورسالته في التغيير الثوري. عبر عن هذه المسئولية بكلمة واحدة : الإخلاص، فالمشكلة الأولي للفنان هي الإخلاص، أن ينفعل بالمجتمع الذي يعيش فيه، ثم يعبر عن هذ الانفعال، يجب أن يكون هذا التعبير مخلصا لوجه الصدق والحقيقة. وحتما سيلتقي في النهاية بما يريد. لا نقول لأي أديب أن يكتب عن المباديء الإشتراكية مثلا. الأساس هوالانفعال. والمشكلة مشكلة الإخلاص، والتعبير عن الانفعال الحق وبالتكيف التام ".. سوف تلاحظ أن حواراته ليست مجرد أسئلة وأجوبة ولكنها مقالات فنية مكتملة المعني والصياغة وتعبيرعن مفهوم كاتبها ورؤيته للفن والحياة. فتلحظ الربط بين المقدمات والنهايات. يفتتح حواره مع نصير شمة عن مقطوعته المؤثرة العامرية عن مأساة الأطفال العراقيين الذين احتموا من القذائف الأمريكية داخل الملجأ فإذا القنابل تصيبهم من فتحات التهوية. "ويعود في ختام الحوار ذاته بسؤال شمتها عن نفس المعزوفة ليجيبه : كنت وقتها جنديا وشاهدت بنفسي هذا الحادث المأساوي وشاركت في استخراج الجثث المتفحمة. مازالت في نفسي رائحة دماء الأطفال ومشاهد اشلائهم وملابسهم، ولقد وضعت هذه المقطوعة في الذكري الأولي للحادث.ومازلت أصر علي عزفها حتي اليوم في كل مكان أذهب إليه في العالم." عالم الشخصية ينطلق قلمه متجليا ويصطبغ أسلوبه بروح شخصياته وفنها. عن أرمينيا كامل يقول " هل كان يدور في خلد الفتاة الإيطالية الصغيرة أن مصيرها سيحدده هذا المبني الفخم «لاسكالا» أهم معالم مدينتها وأنها ستحقق أمنيتها بالرقص علي مسرحه الشهير، وأن عشقها للباليه سيرسم قدرها، فيأتي فارس الأحلام من بلاد الفراعنة التي قرأت عنها كثيرا فيرقصا سويا علي «لاسكالا» ثم يطيران إلي القاهرة ليرقصا معا علي مسرح سيد درويش والجمهورية وتساعده في تأسيس فرقة باليه الأوبرا وتتألق كباليرينة في بحيرة البجع وجيزيل وكسارة البندق حتي تصبح مشرفة ومديرة فنية لفرقة باليه أوبرا القاهرة." إن موهبة إدارة الحوار سواء في الندوات أوالموضوعات الصحفية لا تنبع إلا من شخصيات لديهم قدرة كبيرة علي الحب ومهارة في التعارف والقدرة علي التواصل السريع مع الآخرين. وهي المهارة التي تكشف عنها كلمات الفنان هاشم النحاس في شهادته ضمن الكتاب.. حماس فوزي سليمان وإعجابه بشخصياته لا يطيح بموضوعيته. كما أن حماسي وحبي لأستاذي لا يفقدني موضوعيتي وأنا أتحدث عن هذا الكتاب الذي أمتعني وأسعدني لأنه اختصر لي طريقا طويلا وشاقا في معرفة الكثير. وحقق لي لقاءات مع أكثر من عشرين شخصية كنت أتمني أن أقابلها. ولكني لا أعتقد أنه كان بإمكاني أن أحاورها بنفس القدر من البراعة وأن أتيح لها أن تكشف عن ذاتها وفنها بكل هذه الصراحة والتلقائية.