حصل الباحث المصري الدكتور محمد حسن عبدالحافظ علي جائزة صقلية للتراث الثقافي والأنثروبولوجيا والتي تمنحها جامعة بالرمو الإيطالية، عن كتابه "سيرة بني هلال.. روايات من جنوبأسيوط" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في جزءين، الأول عام 2006 والثاني عام 2008 . وجاء في حيثيات لجنة التحكيم أن الكتاب المتوج - المكون من مجلدين (1400 صفحة من القطع الكبير) - هو حصيلة تجربة ملهمة في مجال الأنثروبولوجيا والأدب الشفهي، أنجزه صاحبه في خمسة عشر عامًا، وكان الهدف منه التنقيب عما بقي من نصوص "سيرة بني هلال" في بعض القري بجنوب مصر، وهي الملحمة الشفهية المصرية التي لا يزال يؤديها بعض الرواة في جنوب مصر وشمالها، التقينا به بعد عودته وكان هذا الحوار: هذه الجائزة لم تكن الأولي في حياتك، فماذا تمثل الجوائز بالنسبة لك؟ - إذا كانت الجوائز تمثل شيئًا فهي تقدير لجهد مبذول بإخلاص. والحقيقة أنني لم أسع، ولن أسعي، للحصول علي جوائز، ولن أفسد أعمالي ومبادراتي يومًا بالتفكير في عمل يستهدف الحصول علي جوائز. ما انطباعاتك عن رحلة إيطاليا وجامعة بالرمو، وأين نحن منهم؟ - كانت هذه الرحلة أغرب وأصعب وأمتع رحلة في حياتي حتي الآن، فسفري إلي إيطاليا تحدد خلال خمسة أيام بدءًا من إعلان حصولي علي جائزة صقلية وانتهاءً بوصولي إلي مدينة بالرمو، وحدث ذلك في أيام غير مواتية، حيث كنا في ثالث أيام العيد، وكنت أتحرك بين أسيوطوسوهاج. بينما تلقيت اتصالاً هاتفىًّا من الدكتور مالك عبرة الواسطي مكلفًا بالتحدث إلي من قبل مركز الدراسات الأنثروبولوجية بجامعة بالرمو لإبلاغي بأن أرسل رسالة عبر البريد الإلكتروني أعلن فيها عن استعدادي للحضور في حال حصولي علي الجائزة، وأن نتيجة لجنة التحكيم ستعلن مساء يوم 18 نوفمبر 2010. كان ذلك قبل يومين من نتيجة لجنة التحكيم، وقال إنه يتعين علي أن أتوجه إلي القنصلية الإيطالية في حالة الإعلان عن تتويجي بالجائزة، للحضور إلي بالرمو في الثاني والعشرين من الشهر نفسه. وفكرت للتو في التحرك سريعًا تحسبا للإعلان عن فوزي بالجائزة فعلاً، فسافرت إلي القاهرة، وأبلغت فعلاً بنتيجة لجنة التحكيم مساء 28 . وفي صباح 29، توجهت للقنصلية لأجدها مغلقة بمناسبة العيد وطلبوا مني الحضور في اليوم التالي، وبدا الحصول علي الفيزا أمرًا مستحيلاً حيث يستغرق استخراجها زمنًا لا يقل عن 15 يومًا، علي حد قول موظفي القنصلية الإيطالية، فأرسلت رسالة للمركز الأنثروبولوجي، ذكرت فيها صعوبة حضوري بسبب إجازة العيد في مصر، ولعدم قدرتي علي الوفاء بالأوراق المطلوبة، وطلبت تأجيل سفري لهذه الأسباب ولكي أتمكن من الحصول علي القرار الوزاري للسفر كما اعتدت، لكن الجانب الإيطالي قام بالاتصال بسعادة السفير كلوديو باسيفيكو سفير إيطاليا في القاهرة، والسيدة كاترين رئيسة القنصلية، ثم اتصلوا بي، وأخبروني أن السفير والقنصل علي علم بأمري. وأنني سأحصل علي التأشيرة يوم الأحد، وأن سفري صباح الاثنين، وهذا ما حدث فعلا. في المطار، تسلمت تذكرتين الأولي من القاهرة إلي ميلانو والثانية من ميلانو إلي بالرمو وقالوا لي إن حقيبتي المشحونة سأتسلمها في بالرمو. بدأت الرحلة، وشعرت بمتعة عبوري باتجاه شمال المتوسط للمرة الأولي في حياتي، وكنت قد عرفت السفر إلي عدد من البلدان العربية فحسب، تهيأت الطائرة للهبوط ودهشت للمطار الذي حطت فيه الطائرة، وقلت لنفسي كيف يكون هذا مطار ميلانو، ومرت دقائق ودقائق حتي أدركنا أننا هبطنا هبوطا اضطرارىًّا في مطار صغير بجنوب إيطاليا بسبب نقص الوقود، إحدي الراكبات أصابها الهلع فأصيبت بهبوط حاد، وجاءت الإسعاف وأسعفتها وعادت للطائرة بينما لانزال ننتظر الانتهاء من تموين الطائرة بالوقود، وكنت أرقب من شباك الطائرة هذه العملية. بعد ثلاث ساعات، عادت الطائرة إلي الجو، ثم وصلت مطار ميلانو، وكنت الراكب الوحيد علي الطائرة المتوجه إلي بالرمو، توجهت إلي مكان إقلاع الطائرة من ميلانو إلي بالرمو حسب العلامات المدونة في التذكرة، لكني لم أجد أحدًا، واكتشفت أن الطائرة غادرت في موعدها، حيث تأخرت الطائرة الأولي، فسألتهم الحل، فأبلغوني أنه ليس أمامي إلا السفر في اليوم التالي، شعرت بدوار، وأحسست أني أمثل دور أحمد زكي في فيلم النمر الأسود، ولطالما جذبني هذا الفيلم، خاصة أن اسم أحمد زكي في الفيلم هو محمد حسن. نفضت رأسي، وقررت السفر بأية وسيلة، وإلا فسدت الرحلة، لأن تسليم الجائزة يتم في اليوم التالي. وبعد مفاوضات مع الخطوط الجوية الإيطالية، اقترحوا أن أتوجه فورًا إلي روما، ومنها استقل طائرة أخري إلي بالرمو. نفذت الرحلة علي هذا النحو، وعندما وصلت إلي بالرمو كنت علي موعد مع مفاجأة جديدة، إذ لم أجد حقيبتي، وخرجت من المطار بدونها، وكان بانتظاري وفد جامعة بالرمو الذي ظل ينتظرني طيلة 6 ساعات. وفي صباح اليوم التالي، عندما شعر الأصدقاء بالحرج من فقدي لملابسي في مناسبة كهذه، حاولوا جلب الحقيبة بمختلف الاتصالات، بما فيها شرطة المطارات الإيطالية، لكن هيهات، ولم يسعفني الوقت إلا باقتناء قميص جديد، وتسلمت الجائزة بملابس السفر، وكنت قد قررت أن أحضر الحفل الفني ذا الطابع الفولكلوري بجلباب صممه أبي، بعد أن أتسلم الجائزة بالزي الملائم للمناسبة، لكن لا هذا ولا ذاك، وعلي غير عادة الحقائب في أي مكان في العالم تسلمت حقيبتي في مطار بالرمو وأنا عائد إلي القاهرة. كانت أيام بالرمو الثلاثة أسطورية وملهمة بمعني الكلمة، وتعلمت منها الكثير والكثير. التقيت هناك بعدد من الأساتذة والباحثين في نفس المجال الذي تدرسه وفي مجالات أخري، فماذا أضافت إليك هذه الشخصيات؟ - اكتشف جماعات علمية إيطالية وأوروبية تستحق الاحترام، يعمل أفرادها بتناغم رفيع المستوي، من شأنه الارتقاء بالدرس الأنثروبولوجي والفولكلوري في العالم، وقد دار نقاش ثري بيني وبين الدكتور روبيرتو لاجالا رئيس جامعة بالرمو، والدكتور أوريليو ريجولي رئيس مركز الدراسات الأنثروبولوجية بجامعة بالرمو، ومؤسس قسم الأنثروبولوجيا، والدكتور مالك الواسطي (وهو إيطالي من أصل عراقي، وأستاذ بكلية الآداب - قسم الدراسات الآسيوية - جامعة نابولي)، والدكتور بياجيو (رئيس أكاديمية فيزوفيو للتراث الشعبي في نابولي)، والدكتور بوتيتا نينو أستاذ الأنثربولوجيا ببالرمو. وقد أهداني الدكتور ريجولي نسخة من كتابه "الأسس الإثنوتاريخية" الذي يمثل تجربة علمية فريدة في مجال الدراسات الأنثروبولوجية في إيطاليا، وخاصة صقلية بما تحمله من تنوع ثقافي أسهم فيه العرب إسهامًا بارزًا. كما حملني ريجولي نسخة مهداة بخطه إلي الفنان فاروق حسني، ورسالة خاصة باستعدادهم لتعاون واسع مع مصر في مجال الثقافة والفنون. ما الدروس والحكم التي تعلمتها خلال رحلتك لجمع السيرة؟ - هذه الرحلة علمتني أن الخيال هو الحقيقة، وأن الأسطورة هي الواقع، وأن تاريخ الناس هو التاريخ الفعلي، وأن المهمشين هم الأقوي، وأن ما نحسبه أعلي هو أدني، وما نحسبه أدني هو أعلي، وأن ما لدي الجماعة الشعبية هو الأمكن، وأن المعارف لا تملكها النخب حصرًا، وأن الفقر ليس سُبَّة، وأن الفقراء هم مبدعو الحكمة. علمتني السيرة الهلالية أن ألمس ما لا أراه، وأن أري الضئيل كبيرًا، وأن أتذوق ما لا طعم له، وأن أزيد في القليل، وأن أقابل المرارة بالإحسان، وأن أبحث عن البساطة في التعقيد. أنت تعكف الآن علي الانتهاء من المرحلة النهائية من أطروحة الدكتوراه في موضوع "سيرة بني هلال في بعض قري سوهاج: دراسة سيميائية للمؤدي والرواية والجمهور، فهل باجتياز هذه المرحلة تكون أغلقت صفحة السيرة الهلالية؟ - أتذكر كلمات شاعر السيرة الهلالية عز الدين نصر الدين - رحمه الله - عندما قال: السيرة أطول من العمر. وأنا لست ممن يقطعون الطريق قبل تمام الوصول، والهلالية بالنسبة لي هي الحياة التي لا تنتهي حتي مع النفس الأخير. ما الصعوبات التي واجهتها أثناء جمع السيرة الهلالية؟ - ليس في وسعي أن أسرد مرارة الصعوبات التي واجهتها - ولا أزال أواجهها - في هذه الرحلة، فقد كانت عيني علي الثمار التي هي الروايات الموثقة للسيرة الهلالية. وأتصور أن كل عمل يترافق معه مشاق وصعوبات بطبيعة الحال، وإذا كان هذا العمل هو نتيجة مبادرة ذاتية يؤمن بها صاحبها ويسعي لتحقيقها، فإن الصعوبات تتلاشي أمام إصراره، ويصير العمل ممتعًا له بمعني الكلمة. وهذه التجربة علمتني أن أسرار السيرة الهلالية مثل أسرار الحضارة المصرية القديمة، وأن العبث بها يفضي إلي لعنة، وأن من يخونها تخونه. سبق لك أن حصلت علي جائزة الشارقة في أدب الطفل، ألا تجد صعوبة أن تجيد في مجالين مختلفين وتحقق فيهما هذا النجاح؟ - لم يكن في حسباني الخوض في تجربة الكتابة للطفل، قبل عملي مع الدكتور أحمد مجاهد في المركز القومي لثقافة الطفل عامي 2007 و 2008، وخلال هذه الفترة، قمت بالاطلاع علي الكثير من الدراسات في مصر والعالم، وعلي الكثير من الإبداعات الموجهة للطفل أو يبدعها الطفل. ودونت الكثير من الملاحظات في هذا المجال؛ من أجل العمل علي تنشيط برامج المركز. وكنت أدرك بالطبع صعوبة الكتابة للطفل، فهذه الكتابة تتطلب دُربة ودراية، مثلما تتطلب وعىًا ورقابة ذاتية. ولاحظت أن كثيرًا من الراشدين يحملون أوهامًا عن الطفل وعن عالمه. ومعظم تصوراتهم قائمة علي "نوايا حسنة"، لكنها في الحقيقة مشوشة، قلقة، خائفة، حيال الطفل، بوصفه كائنًا ناقصًا، فيصرون علي ممارسة مختلف أنواع السلطة التي ينجم عنها ضمور فرصه في الاختيار، وفي الاكتشاف، وفي القفز. في امتطاء الخيال وتأمل الغامض، والبعيد، والخبيء. بعض هؤلاء الراشدين يشتغلون في ميدان الأعمال النقدية التي تتناول نصوص أدب الطفل بالدرس والفحص، ويستنسخون التوجيهات الإرشادية والوصايا النازعة إلي "التبسيط" و"السهولة" و"الوضوح" و"الانتقاء" و"المنطقية" و"الملاءمة" و"تحديد الفئة العمرية" و"الترشيد اللغوي والخيالي"، و"الحذر من التحديث والتجريب" وغير ذلك مما يمثل - في تصورهم - الاحتياجات التي ينبغي علي كاتب الأطفال أن يقدمها للطفل في إبداعاته. وهي - للأسف - توجيهات إرشادية مؤثرة في ميدان "الكتابة الأدبية"، حيث تتمثلها مجموعات قصصية، أو روايات، أو مجموعات شعرية، أو مسرحيات، موجهة للطفل، تزخها المطابع زخًا، ويستهلكها الآباء شراءً، ويطالعها ملايين الأطفال في العالم العربي. فكرت أن أساهم عمليا في المركز القومي لثقافة الطفل بعمل مسرحي بعرائس خيال الظل، أتذكر أني كتبته في ليلة واحدة وأنا في الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب، بحضور المخرج الشاب أيمن حمدون. وقد تم عرضه في بعض المحافظات المصرية، كما شارك به أيمن في مهرجانات عربية. وكنت أفكر في مواصلة هذا الإسهام. لكني تركت المركز فجأة للعمل بأكاديمية الفنون، دون أن أترك الطفل وثقافته وأدبه وفنونه. وفكرت في أن أجذب خبرتي في الأدب الشعبي إلي عالم الكتابة للطفل، واعدًا نفسي باكتشاف جماليات جديدة تحترم الطفل والفن معًا. وكان أول أعمالي تلك المسرحية (لعبة الغولة) التي كتبت للعرض بعرائس خيال الظل وعرائس الماريونت بجانب التمثيل البشري، وتوج هذا العمل بجائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال أدب الطفل عام 2010، وهو التتويج الذي يكلفني بأن أضع شأن الكتابة للطفل في صدارة اهتماماتي.