لا أدرى لماذا أعود إلى هذا العنوان الذى ا ختاره أسامة فوزى لفيلمه الأخير.. قبل أن يضطر إلى تغييره بعنوان آخر لا يدخل إلى أعماق الفيلم وتضاريسه الخفية شأن العنوان الأول. ربما أراد المخرج الفنان والكاتب الموهوب هانى فوزى من ورائه أن يقولا إن الفيلم يقدم الواقع الذى نعيش فيه دون تزييف.. وأننا نراه بألوانه الطبيعية التى خلقها الله به. مهما يكن.. ففيلم أسامة فوزى الذى يعود به بعد غياب استمر أكثر من خمس سنين.. عقب إخراج فيلمه الجميل "بحب السيما".. يعتبر فى نظرى حدثًا سينمائىًا مهمًا.. ويمكن أن يكون نقطة تحول حقيقية فى مجال التعبير السينمائى المصرى. رغبات الأم الفيلم يروى خمس سنوات من حياة شاب ̃يحلم بأن يكون فنانًاŒ وأن ينتمى إلى كلية الفنون الجميلة ليتعلم هذا الفن الذى يعشقه والذى أراد أن يكون فى حياته وفى مستقبله كله، ولكن رغبات أمه وسلطتها وتحكمها فى قدره.. ورغبتها فى أن يصبح ابنها مهندسًا أو طبيبًا.. ترفع رأسها به أمام معارفها.. وهذا ما يحدث فعلاً.. ويضطر يوسف إلى الرضوخ لإرادتها.. ولكنه يعجز منذ الشهور الأولى عن الاستمرار فى الكلية لا يفهم من طلاسمها شيئًا.. وعوضًا عن المذاكرة والتركيز.. يقضى وقته برسم اسكتشات لفتاة الجيران المنحدرة على أريكتها والتى يراها من نافذته.. مما يؤدى بالأم إلى مواجهة الأمر الواقع.. والاستجابة لرغبته بالانتماء إلى كلية الفنون الجميلة التى يحلم بها.. وفق طقوس جنائزية وصرخات ملتاعة عرفت "انتصار" التى تقوم بدور الأم كيف تقدمها بأسلوبها الناضج وبشخصيتها المليئة بالاتصالات الحية. ولكن رغم تحقيق يوسف لحلمه الكبير يظل "شبح" أمه ماثلاً أمامه فى أزمات حياته كلها، وعوضًا عن أن يحس بطله الحزن التى ينشدها فى كليته المختارة.. ويجد نفسه أمام جدران عالية من التسلط والفساد والمصالح وأمواج هادرة من الزيف.. تتمثل فى سلطة الأساتذة وبدأ نحو المد الدينى والتزييف المشوه فى العلاقات سواء بين الأساتذة والطلاب أو من علاقات الطلاب أنفسهم. صورة كاريكاتورية وهنا يقدم أسامة فوزى صورة كاريكاتورية قاسية للكلية وأساتذتها.. أشبه ما تكون بوخزات الإبر. وخزات لا ترحم أحدًا.. ولا تجامل مخلوقًا.. ولكن يوسف يحمل فى أعماقه مخزونًا كبيرًا من البراءة يشجعه على إقامة علاقة حب مع زميلة له.. "الهام" والارتباط بصداقته مع زميل هو النقيضى الكامل لشخصيته هو "على" الذى يعيش حياة حرة لا تلتزم بأية رابطة.. ولا يقف فى وجهها أى حاجز. ومن خلال هاتين الشخصيتين على ويوسف يبنى أسامة فوزى فيلمه محاولا طرح كل المواضيع التى تؤرقه.. علاقة الفن بالزيف.. طبيعة العلاقة التى تربط بين الرجل والمرأة.. حرية الفنان وحدودها علاقة "السلطة" المتمثلة هذه المرة فى جهاز إدارة الكلية.. بأفرادها المتمردين أو الصاغرين، الفساد المستشرى.. والمصالح.. والقيم العليا التى تهز.. والمثل العليا التى تتحطم.. ولعل كثرة "التيمات" التى يعالجها الفيلم.. هى التى بررت هذا "الامتداد الزمنى" فى أحداثه والذى جعلنا نحس أحيانًا بارتباك بنائه الدرامى.. ولكن القوة فى معالجة الشخصيات أنقذت الكثير من مواطن الضعف "والتى تجلت أكثر ما تجلت فى النصف الأول من الفيلم". شخصية يوسف.. وعلاقته بالهام.. كانت هى الخط الرئيسى فى أجزاء الفيلم.. والامتداد الزمنى ساعده على قبول تحول شخصية الهام من طالبة متمردة حرة إلى فتاة محجبة تقيدها تقاليد بالية.. تنتهى بها إلى ارتداء النقاب والخروج نهائىًا من حلبة الحياة "وقد أدت يسرا اللوزى كعادتها هذا الدور بكثير من العفوية والبراءة والاقناع". التحرر الأخلاقى يوسف وحيرته بين الالتزام الدينى.. والتحرر الأخلاقى والفنى.. موقفه من "أشباح" السلطة التى تطارده والتى تقف فى وجه حريته التى يطالب بها والتى يحس أنها مصدر وسبب وجودها. إنه يسأل نفسه.. يسأل خالقه.. ويسأل محيطه.. ويسأل أساتذته، أسئلة لا تنتهى.. قد لا يجد أحيانًا ردًا عليها ولكنها تقوده كلها رغم انغلاق الأبواب فى وجهه إلى الإصرار على المطالبة بحريته حتى الثمالة ولعل المشهد الأخير ̃العبقرىŒ. "شأن نهايات أفلام أسامة فوزى كها" والتى تجعلنا نراه مع بعض أشباحه فوق متن سفينة بحرية فوق مياه النيل.. يراقب طائرًا أسود الجناح.. يطير نحو السموات الزرقاء بحركة متصاعدة لا تنتهى.. تعبر خير تعبير عن رؤية صانعى الفيلم بشاعرية ووضوح وصراحة مدهشة. نقطة الارتكاز ولكن رغم قوة شخصية ̃يوسفŒ وكونه نقطة الارتكاز للفيلم كله.. فإن عدم التوفيق الكامل فى اختيار الممثل الذى أدى دوره.. قد وجه الانتباه إلى شخصية على "التى يقوم بأدائها وجه جديد نراه لأول مرة هو رمزى لينر.. والذى اعتقد جازمًا أنه سيكون واحدًا من أهم نجومنا فى الفترة المقبلة.. فهو يملك شخصية مغناطيسية مدهشة.. وقدرة على الاقناع. وتنوعًا فى التعبير..وحرارة فى الإحساس تؤهله لأن يكون واحدًا من الأبطال الكبار الذين تحتاجهم السينما المصرية بأمس الحاجة". على أن الفيلم هو هذا الشاب الذى اختار عن وعى طريقًا جانبيًا فى الفن.. فيرينا فيه كل شىء حتى عواطفه.. ولعل مشهد المصارحة بينه وبين حبيبته هدى وتلعب دورها بإتقان وإقناع "فرح يوسف" واحدة من أجمل وأعمق المشاهد الحوارية فى الفيلم. سجن الثقافة هدى الألمانية الجذور.. المتحررة حقًا.. والتى تقيم علاقة مرة مع هانى وتحمل منه وترفض إجهاض نفسها وتقرر الاحتفاظ بالجنين والسفر إلى ألمانيا.. حيث يمكنها أن تعيش مع طفلها فى أمان بعيدًا عن سجن التقاليد الشرقية التى ستحرمها من أمومتها، ثم هذا الإحساس بالألوان الفائقة الذى يجعل هانى يحس لأول مرة بمشاعر إنسانية لم يحسها قبلاً.. مشهده وهويحمل عربة لابنه الصغير سعيدًا واثقًا وقد تحرر من أوهامه.. ثم معرفته بسفر هدى وجنينها ورد الفعل على وجهه.. مشهد من المشاهد التى لا تنسى، منى هلا .. فى دور صغير دور غانية تقف موديلا ليوسف الذى يحاول أن يجمدها عند حركة واحدة وهى تخلع جوربها.. ثم تكتشف نفسها عندما ترى صورتها.. فتنفجر باكية، وتحاول النجاة بنفسها، ولكن يوسف الذى رسمها يعطيها "لوحتها" فتنظر إليها نظرة شديدة الخصوصية والدمع فى مأقيها نظرة تجعل من هذا المشهد واحدًا من أجمل المشاهد التى قدمتها لنا السينما المصرية فى سنواتها الأخيرة. فيلم شخصيات وأخيرًا المعيدة ̃ليلىŒ المتحررة الوصولية، القديمة الموهبة، الشبقة جنسيًا.. التى تتلخص الحياة كلها بالنسبة لها.. فى مصلحتها واستغلال الأخرين وتلعب الدور ممثلة جديدة هى فريال يوسف فتجعل من هذه الشخصية البطلة الحقيقىة للفيلم.. تمامًا كما فعل رمزى ليقدم شخصيته على فريال وهدى.. هما الهدية الفاخرة التى يقدمها لنا أسامة فوزى فى فيلمه المشع هذا.. بألف لون ولون. ويجب أن أتوقف أيضًا أمام إبراهيم صلاح.. الذى لعب دور الحفيد الحالم بالأستاذية.. والذى جعل من نفسه عبدًا لأساتذته وجشعهم ومصالحهم طوال خمس سنوات لينتهى به الأمر إلى إخفاق كامل وخيبة أمل فدفعه إلى عمل جنونى ضاحك فيه الكثير من الوجع.. رغم ارتدائه مسوح الكوميديا. شخصية الداعية الإسلامى يقدمها الفيلم أيضًا ببراعة تختلط فيها السخرية بالجد.. وينجح الممثل "الذى يشبه إلى درجة كبيرة داعية إسلامى حقيقى" فى خلق الجو المناسب لهذه الشخصية. بالألوان الطبيعية.. هو فيلم شخصيات أكثر منه فيلم أحداث.. رغم امتداده الزمنى الطويل يعتمد بشكل أساسى على المباشرة "التى تصل فى بعض الأحيان إلى حد الفجاجة" وعلى الحوار الطويل وهو ما يخالف جذريا أسلوب أسامة فوزى الذى عودنا عليه فى أفلامه السابقة.. صراخ عنيف ولكن هذه التحفظات كلها لا تنفى جودة الفيلم وجرأته وصراحته.. وخفقات قلبه الواضحة.. لقد أراد أسامة فوزى وكاتبه.. أن لا يكتفيا بالهمس المعبر الذى لجأ إليه فى أفلام سابقة وأن يستبدلانه هذه المرة بالصراخ العنيف.. وكأن هناك ثقلاً هائلاً يرزح على القلب ولا يمكن الفكاك منه إلى بالصراخ الصادر من أعماق الأحشاء. وعنصر آخر غاب قليلاً عن فيلم أسامة فوزى.. هو "الجماليات المدروسة" بشدة وذكاء والتى أكدت نفسها فى كل أفلامه السابقة.. ولكنها غابت تقريبًا فى هذا الفيلم.. رغم أن مصوره هو طارق التلمسانى ورغم أنه يدور حول فن الرسم.. وألوان اللوحاتŒ أى أن المجال كان واسعًا ورحبًا أمام صانعى الفيلم فلم يقدموا لنا صورًا ذات جماليات مبهرة.. لا شك أنهم قادرون عليها.. بدليل المشاهد الجميلة التى يخاطب فيها يوسف ربه من خلال طبيعة جليلة وفائقة الجمال.. والتى اختفت تقريبًا فى كثير من المشاهد الأخرى رغم حاجتنا الماسة إليها. "بالألوان الطبيعية" يعيد لنا مخرجا استثنائيًا وكاتبا مرموقًا.. ويخرجنا بصرخاته الذبيحة..وبتأملاته النشوانة وبصراحته الجارفة.. عن كل ما رأيناه أخيرًا من "محاولات" سينمائىة كذلك فلا يمكن النظر إليه والحكم عليه بمقارنته بأفلام أخرى.. لأنه بالحق نسيج وحده.. فيه كل ما نريده من السينما.. لذلك كنا ننتظر منه أكثر مما رأيناه. البحث عن الحرية.. من خلال واقع صلب وجدران سميكة.. وأشباح ممتدة من الماضى السحيق إلى الحاضر المزيف والملوث.. والذى يحمل وجهًا يشبه وجهه مهرجى الكرنفالات.. لقد حرك أسامة فوزى أبطاله بخيوط ذهب وصريح.. وإن كان التوفيق قد جانبه فى اختيار "دميته" الرئيسية.. التى حجبت نورها.. "دمية" أخرى أكثر امتدادًا وأشد حرفية وأكثر قبولاً.. ولكن أصابع أسامة فوزى الساحرالماهر الذى عرف كيف يمسك بخيوطه وكيف يحركها، ويجعلها تنشد أمامنا هذا النشيد السحرى الذى ملأنا نشوة رغم مباشرته وعرى كلماته أحيانا. ولكن هل يعيب اللحن الجميل النشوان ظهور فونات صغيرة ناشزة فى ثناياه..؟؟.