وأهم من يعتقد أن ثورة 25 يناير لم يغرس قبلها وفي أرضها بذور وتراكمات معرفية وثقافية أو فكرية.. وكل من داهمته الثورة، لم يكن متابعا للساحة ثقافيا وأدبيا وسينمائيا وصحفيا والمتأمل لهموم الرواية والقصة والسينما والفن التشكيلي والصحافة، قبل الثورة.. يجد أن كتّابها لم ينعزلوا عما يعتبر مقدمة وارهاصا بيوم الثورة السلمية، غير المسبوق في تاريخ الأمم .. وأزعم أن الصلة كانت وثيقة ولصيقة، لمراقبتهم الواقع بفجاجته وأن قرون استشعارهم التقطته وأدركته من نبض الشارع وما يمور فيه، فقاموا ببث البذور لتهيئة الأرض للنبت، وهؤلاء من وجهة نظري المتواضعة هم الأساتذة: جمال بدوي، مصطفي شردي، السيناوي، هويدي، قنديل، أحمد سلامة، والدكاترة عاصم الدسوقي، حسن نافعة، والسفير أمين يسري وغيرهم. ومن مختلف أجيال الروائيين الغيطاني في روايته «الزيني بركات» والقعيد في روايته «وجع البعاد» ومحمد الفخراني في روايته «فاصل للدهشة» ومكاوي سعيد في روايته «تغريدة البجعة» وغيرهم. وقدمت السينما أفلاما ثائرة مثل «عايز حقي» لهاني رمزي «زوجة رجل مهم» لأحمد زكي «ليل وقضبان» لمحمود ياسين وغيرها. وفي الفن التشكيلي قدم محمد عبلة لوحة «الزحام» أو «البحث عن هوية» كما قدم لوحة تتصور الميدان بكل انفجاراته .. ولوحة تستخدم الكولاچ .. تتصدرها شعارات مثل «البحث عن رئيس»، وكان لديه أمل وإيمان عميقان بالذين يتجاوزون جيله من الشباب. وقدمت الفنانة رباب نمر عدة لوحات تشمل الحلم بالحرية والثورة .. حيث اتسعت الرؤية لتري الناس وكفاحهم اليومي.. سواء المراكبي الذي يحلم بالشاطئ باعتباره الملاذ.. أو ذلك التاجر الذي يتعامل مع السمك وهو يتابعه كأنه أحجار كريمة وقدمت القصة القصيرة التي سبق وتناولنا بعضها «خطاب من قبلي» لمحمود دياب، وبعضا من قصص «أرزاق» لسعد الدين وهبة وبعضا من قصص «ذكر الوقائع القديمة» لمحمد جبريل، وبعضا من قصص «عجائز قاعدون علي الدكك» للطاهر الشرقاوي .. إن معظم هذه القصص مغروسة وملتصقة بهموم المجتمع المصري، وما يعتمل في دواخل الناس من اشواق وتوق إلي الخلاص من الفساد وضغطة الأخذ بالخناق. نماذج قصصية في قصة «الفستان» لمحمود دياب .. كان بطل النص يعاني التضييق علي نفسه بتوفير ثمن فناجين القهوة والشاي والدخان، لأجل شراء فستان لابنته لتظهر به في حفل مدرسي، كوجهة تزهو بها الأم بين قريناتها .. وباكتمال المبلغ.. يلتقي بزميل يشكو له شدة الحاجة لشراء دواء لابنه فيتطوع بإعطائه ثمن الفستان سدادا لدين قديم كان قد اقترضه منه في الشهر المنصرم. وفي قصة «الباشمحضر» لسعد الدين وهبة من مجموعة «أرزاق».. عين بطل النص علي نفيسة، المطلوب الحجز علي عفش بيتها.. الباشمحضر، فيعقد مقارنة بينها هي «طويلة» ممتلئة .. بيضاء.. ترتدي فستانا أسود .. قد أظهر استدارة الوجه وبياضه.. وبين زوجته أم محمود العجفاء «لقد كان يحلم في شبابه بمثل هذا الجسد».. وتستشعر نفيسة بما يدور بنفسه فتثتثمر نزوعه إليها.. راجية أن يسد الدين عنها، انقاذا لها من الحجز .. مقابل أن تنتظره بعد نوم صغيرتها بعد العشاء.. لأن زوجها سجن .. وتعاني الوحدة والدين .. لكن يتصادف أن تدخل عليهما طفلتها باكية شاكية .. بعد ضرب ابن الجيران لها، وأنه عايرها - لو كان لك أب رباكي .. هو فين أبويا علشان يضرب الواد فهمي «وشرد بصر الباشمحضر، وأحس بأشياء كثيرة مختلطة تدر في ذهنه، ورأي في تلك الطفلة .. ابنه محمود .. ورأي في نفسه ذئبا» فوقف وقال في حزم - ست نفيسة لما يرجع سي عبدالعال جوزك .. يجيب المبلغ .. وأنا مش جاي بعد العشاء. في قصة «كيف أذوق حلاوة ما لا أعرفه» لمحمد جبريل من مجموعة «ذكر الوقائع القديمة» يعاني بطل النص مطاردة عصابة له، لاستحواذه علي مستندات وأوراق خطيرة .. تكشف تورطهم وتدينهم، فيسقط في جب من الخوف والقلق والتوتر. يقول راوي النص «ما تبينته بعد الإفاقة» أني لم أعد أبصر .. تداخل الصمت والعتمة .. وبدأت أتحسس طريقي إلي المكتبة التي أعرف موقعها .. وذكرت الأرقام من 1:10 بالأرقام .. ثم سحبت الكتاب الحادي عشر .. ملت ثانية من النافذة .. أفردت الكتاب .. سقط ما به من أوراق .. يهمني أن تصل إلي الناس .. أن يقرأوها ويتدبروا ما ينبغي أن يحدث». في قصة «هي دائما هكذا» للطاهر شرقاوي من مجموعة «عجائز قاعدون علي الدكك» تبدو بطلة النص امرأة عجوزا بلا أبناء، تعمل فراشة بمزلقان المحطة يتناوبها وجع الظهر ، بفعل كبر السن وخطوط الزمن فوق وجهها المتغضن .. قابضة علي مكنسة من ليف النخيل.. منحنية فوق سلم المزلقان العلوي .. بتأن تأخذ سلالمه الرخامية.. سلمة سلمة .. ما إن تنتهي من كنسه .. حتي يكون قد امتلأ بالتراب الناعم.. تناقلته الأقدام الكثيفة من أسفل.. حين يصل القطار الحربي الذاهب إلي الصعيد. تبص علي العساكر الصغار بأفرولات الإجازة الزيتية عندما يلمحونها من نوافذ وأبواب القطار .. يكفون عن الهرج. الصغار بأفرولات الإجازة الزيتية عندما يلمحونها من نوافذ وأبواب القطار .. يكفون عن الهرج.. ويحدقون إلي وجهها الوحيد الباصص عليهم. الانفجار الكبير في قصة محمود دياب نجد أن الحالة الاقتصادية أدت إلي الحرمان والمرض. وفي قصة سعد الدين وهبة .. نجد أن غياب العائل تسبب في تفاقم الدين والحجز والانحراف. وفي قصة محمد جبريل نجد أن الفساد يدفع مرتكبيه لمحاولة انتزاع الوثائق والمستندات التي تدين الخارجين علي القانون . ولو أدي ذلك إلي البطش والتنكيل والقتل. وفي قصة الطاهر شرقاوي.. نجد أن القاص كان ملهما.. ولديه نبوءة تعاطف الجيش مع المرأة العجوز.. التي هي روح مصر المنهكة والمثقلة بالإعياء والنهب الاقتصادي، وفقد ابناء مخلصين ينقذونها من الوحدة والضياع الاقتصادي الذي يتمثل.. في أنها كلما كنست السلالم أعادت الأقدام التراب إلي المزلقان ثانية.. إذن فالصحافة والإبداع بمختلف اشكالهما .. لم يكونا بمعزل عما كان يحدث قبل الثورة .. إنما ساهما إلي حد كبير في نثر البذر، تمهيدا للانفجار الكبير.