كدت أفقد الأمل، كدت أفكر جديا في ترك هذا الوطن.. والمغادرة إلي أرض أخري تكفل لي حياة بسيطة ليست مرفهة وإنما بها ضمانات الحياة الهادئة الكريمة كان آخر ما تشبثت به بعد سيطرة هذه الفكرة علي، هم «الناس» عماد هذا الوطن فلن أجدهم في أي مكانا آخر حتي هؤلاء وقبل 25 يناير كانوا أناسًا غير الذين عهدناهم، فبدل الشباب والنخوة حل الجبن، وبدل الكرم حل البخل، وبدلا من الصبر حل ضيق الخلق وانتشرت المشاحنات في أرجاء حياتنا ابتداءً من المنزل إلي العمل إلي المرور إلي المصالح الحكومية، وطبعا الشرطة وطريقة تعاملهم مع الناس فحدث ولا حرج. كان الناس هم الخيط الوحيد الذي يربطني بهذه الأرض فكم اشتقت إليهم بوجوههم التعسة وعيونهم الغائرة وملامحهم التي نحتها الجوع، كانوا هم الخيط الوحيد الذي يربطني بهذه الأرض.. حتي وأنا أزور مدينة فانكوفر والمقاطعة البريطانية المعروفة بسحرها وجمالها، ورحلة استمرت شهرا، عدت وأنا مشتاقة حتي لوجوه المرضي الحائرة علي باب مستشفي أبوالريش، مشتاقة للوجوه السمراء وعلامات الصبر تكسو ملامحهم. حقيقة فقدت فكرة أن أرحل، إلي أين لا يهم، كان قرار الرحيل أهم بكثير من إلي أين سأذهب. إلي أن كان يوم 25 يناير والذي تبدلت فيه الوجوه، فأتت إلينا أيام مختلفة وواقع جديد ومصري جديد مازال يحمل بداخله غيرة شديدة علي بلده، فمصري جديد لم تنل منه وسائل الإعلام الباهتة أو تشوهه أو تنال من روحه، وجه كان مختفيا تحت غلالة من الصبر والاحتقان. فقد تفجرت الثورة في وجه الفساد والطامعين والطغاة وولد مصري آخر ثائر علي الكسل والغضاضة وغض البصر والضمير. مشاهد متتالية في ميدان التحرير.. أصوات عالية يتخللها غناء عفوي لمجموعة هنا وأخري هناك، أغاني الشيخ إمام ونجم وسيد درويش تحفز الهمم وتشحن الثورة من جديد مع كل فجر يطل علينا. لم تكن صدفة أن يأتيني صوت محمد منير وأغنية كانت بمثابة ناقوس الخطر سجلها منذ شهرين وطرحها علي التليفزيون المصري إلا أن إعلامنا بسطحيته الشديدة رفضها لما بها من شحنه غضب، لم يكونوا يعلمون أن الثورة قادمة لا محالة.. ويشاء السميع العليم أن تذاع هذه الأغنية مع بدايات الثورة علي الفضائيات فانتشرت إلي أن تصدرت المشهد العام، تقول كلماتها: «إزاي ترضيلي حبيبتي/ العشق في اسمك وأنتي/ عمالة تزيدي في حيرتي/ ومنتش حاسة بطيبتي إزاي/ مش لاقي في عشقك دافع ولا صدقي في حبك شافع/ إزاي أنا رافع راسك/ وأنتي بتحني في راسي إزاي/ أنا أقدم شارع فيكي، وامالك من اللي ماليكي/ أنا طفل اتعلق بيكي/ وفي نص السكة وتوهتيه/ أنا لوعاشقك متخير/ كان قلبي زمانه اتغير/ وحياتك لفضل اغير فيكي لحد مترضي عليه/ إزاي ترضيلي حبيبتي والعشق في اسمك وانت عمالة تزيدي في حيرتي/ ومنتش حاسة بطيبتي/ إزاي» ثم تستطرد الأغنية «إزاي سايباني بضعفي/ طب ليه مش واقفة في صفي/ وأنا عشت حياتي بحالها عشان ملمحشي في عينك خوف/ وفي بحرك وله في برك إزاي أحميلك ضهرك/ وأنا ضهري في آخر الليل دايمًا بيبات محني ومكشوف» كلمات نصرالدين ناجي وألحان وتوزيع أحمد فرحات، إخراج هادي الباجوري. تعمدت ترك السطور السابقة لكلمات الأغنية حتي يتأملها كل من سمعها أو لم يسمعها حتي يستنتج الكلمات التي أفاقت الإعلام المصري، وللأسف مازال رغم الثورة لم يذعها مما أدي باستياء منير وعشاقه في كل مكان الذين يتبادلونها يومًا بعد يوم. وأعود إلي الوراء قليلا فأقول إن تلك الأغنية ليست هي الصرخة الوحيدة التي أطلقها منير عبر رحلته الطويلة من جعبته وتجربته ومشروعه عشرات من الأغاني التي تغنت للوطن منها وللسمرة الجميلة أشهرها هذه الأيام «يا مصر يا أم الدنيا يا أغلي الأوطان» والتي تذاع كثيرا هذه الأيام، أغنية «الليلة يا سمرا» ثم «يا عروسة النيل ياحتة من السما/ ياللي صورتك جوة جلبي ملحمة، كلمات عبدالرحيم منصور، وألحان أحمد منيب والتي يسترسل فيها فيقول: داحنا لو مرة نادينا/ تجري علي أصغر ما فينا/ من ورا الليل والمعابد والكنايس والمساجد تحضونينا وتحكي لينا/ تصغر الدنيا في عنينا.. اتكلمي اسم أغنية كانت مصاحبة لفيلم تسجيلي باسم «القلعة» أخرجه علاء كريم عام 83 تقول: «اتكلمي ليه تسكتي زمن اتكلمي/ ليه تدفعي وحدك الثمن اتكلمي/ وتباتي ليه تحت الليالي اتكلمي/ المشربيات عيونك بتحكي عاللي خانوكي/ واللي سنين هملوكي. ثم أغنية اعتبرها من أهم ما غني محمد منير ومن أهم ما استمعنا إليه في السنوات الأخيرة ومن شدة كلماتها لا يذيعها التليفزيون المصري كذلك وهي حدوتة مصرية، فما حاجتنا إليها في هذه الأيام تقول كلماتها: «ما نرضاش يخاصم القمر السما/ مانرضاش تدوس البشر بعضها، مانرضاش/ تهاجم الجذور أرضها مانرضاش/ قلبي جوا يغني وأجراس تدق لصرخة ميلاد/ تموت حتة مني الأجراس بتعلن نهاية بشر من العباد/ دي الحكمة قبلتني وحيتني وخلتني أغوص في قلب السر/ قلب الكون قبل الطوفان ما يجي خلتني أخاف عليكي يا مصر/ واحكيلك علي المكنون/ مين العاقل فينا ومين المجنون/ مين اللي مدبوح من الألم/ ومين اللي ظالم فينا ومين مظلوم/ مين اللي مايعرفش غير كلمة نعم/ مين اللي محنيلك عمار عمالك الطيابة/ مين اللي بيبيع الضمير مين يشتري ومين يشتري بين الدمار/ مين هو صاحب المشكلة والمسكن والحكاية والقلم» وتنتهي الأغنية: «لايهمني اسمك عنوان لا يهمني لونك ولا ولادك مكانك/ يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان/ ياناس يامكبوتة هية دي الحدوتة حدوتة مصرية». ألا يوجد أبلغ من تلك الكلمات التي صاغها عبدالرحيم منصور ولحنها أحمد منيب لكي تعبر عن شباب زي الفل قابع في ميدان التحرير فإن ما يحدث حدوتة مصرية جدا، حدوتة تشابه الذين سقطوا برصاص مصرية مثلهم خرجوا يعبرون عن رأيهم ولكن كما أن هؤلاء أفاقوا النظام فإن صوت منير والكلمات التي يختارها لا تزال تخيف كثيرين ممن لا يزالون لم يستوعبوا الدرس.. درس 25 يناير. ومن أجل هؤلاء لم ولن نهاجر ولن نترك هذا الوطن سأظل أزور ميدان التحرير وأقضي به ساعات حتي استعيد روح شابة متحمسة للأسف اختفت من أرواحنا في الأيام ما قبل 25 يناير.