تمثل الدورة الحالية لبينالي القاهرة الدولي فرصة طيبة لجمهور المعارض الفنية ومتذوقي الفن كي يشاهدوا نماذج لأعمال فنية بصرية متنوعة أساليبها واتجاهاتها، ومن هذه الزاوية لمست أن منظمي البينالي نجحوا في إرضاء كل الأذواق علي اختلافها. ومن بين الاتجاهات الحديثة - وهي متعددة - عرضت أعمال لثلاثة فنانين تعتبر نماذج طيبة لاستخدامات الضوء في الأعمال البصرية، وقد ظهر استخدام الإضاءة في الفن بالعالم الغربي اعتبارا من ستينات القرن العشرين، وكان الفنان دان فلافن (1933- 1996) من بين المشاهير الذين استخدموا الإضاءة في أعمالهم، وقد شاع ذلك الاتجاه بين عدد من الفنانين في بلاد متعددة، وفيما يلي نعرض للثلاثة نماذج التي يعرضها بينالي القاهرة في دورته الحالية. العمل الأول - قدمه الفنان الإيطالي باتريزيو ترافاجلي Patrizio Travagly (1972) ويعمل حاليا مديرا لأكاديمية الفنون بفلورنسا، وعمله عبارة عن تجهيز ضوئي صممه خصيصا لبينالي القاهرة وأسماه (Bulk) وترجمته الحجم أو الاتساع، والعمل مكون من خمس كتل هندسية مختلفة في أشكالها، كوّنها من زجاج ومرايا، ووضع مكان التقاء أسطح المرايا صفوف مصابيح صغيرة مضيئة، بحيث تنعكس صورتها مكونة عددًا لا نهائيا من مصابيح الإضاءة، وقد اعتمد الفنان في إنجاز عمله علي علاقات وحسابات رياضية شأنه في ذلك شأن المعماري، مستغلا مبادئ ونظريات علمية كظاهرة الانعكاس المتكرر للأشعة الضوئية لينقل للمشاهد الإحساس بأبعاد فراغية وكأنها فضاء كوني مصغر. العمل الثاني: قدمه الفنان الشيلاني إيفان نافارّو Ivan Navarro (1972) الذي يعيش في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو أساسا نحات ومثّال لكنه صار يستخدم خامات غير تقليدية ويمزجها بعنصر الإضاءة لينجز أعمالا تتماشي مع البيئة المدنية العصرية، والعمل المعروض عبارة عن كابينة معدنية الهيكل، زجاجية الأجناب، تشبه كبائن التليفون، ولكن أرضيتها وسقفها مرآتان مربعتان (متر * متر) وثبت علي أضلاع المرآتين صف من المصابيح الصغيرة، ويمكنك فتح باب الكابينة والوقوف داخلها، فتري بفعل الانعكاس المتبادل بين المرآتين أن أرضية الكابينة وكأنها بئر لا قرار له، أما سقفها فيبدو وكأنه فتحة مربعة تتجه للسماء إلي مالا نهاية، إن العمل جميل وجذاب شكلا، يضع المشاهد في حالة إثارة عندما يلج داخل الكابينة، الجديد بالطبع أن الجمهور في تعامله مع هذا العمل لا يقتصر دوره علي المشاهدة السلبية وإنما يتفاعل معه بالدخول فيه ويستشعره بحواسه. إن ذلك العمل هو تشكيل لكتلة في الفراغ لكن باستخدام وسائط مستحدثة تماما، صناعية وعلمية جلبها من واقعنا المعاصر. العمل الثالث: وقدمته الفنانة الكورية الجنوبية ووجونج تشون (Woojung Chun) المقيمة في المملكة المتحدة، فوضعت في قاعة إضاءتها خافتة منضدة بها درجان مسحوبان للخارج، إذا نظرت داخل تجويفهما تري صورا متحركة ملونة وكأنهما شاشة تليفزيونية، فتقف متسائلا كيف؟ ومن أين تأتي تلك الصور؟ والي جوار تلك القطعة من الأثاث يوجد مكعب خشبي كبير ضلعه حوالي 70سم وبكل جانب من جوانبه الأربعة (عدا الجانب الواقف عليه المكعب، والجانب العلوي المقابل له) تجد تسع فتحات عليها عدسات إذا نظرت من كل فتحة تري تكوينا أو شيئا مختلفا عما تشاهده في الفتحات الأخري، وتلعب الإضاءة هنا والتكنولوجيا الالكترونية دورا أساسيا فيما يقدمه الفنان. تلك كانت الثلاثة نماذج التي ربما أثارت انتباه البعض، وجعلت البعض الآخر يتساءلون: وهل هذه التكوينات فن؟ إن التساؤل مشروع ومفهوم إذا ظللنا متمسكين بالنظر إلي الأشياء والحكم عليها طبقا لقواعد ثابتة ترسخت علي مدار عدة قرون، إلا أن الزمن و التطور فعلا فعلهما وتجاوزت البشرية أنماطا اعتدنا عليها ودخلت حياتنا أنماطا أخري مستحدثة، وأقرب الأمثلة لذلك: التليفون المحمول الذي أصبح في متناول الجميع، فهل نقبل بالالكترونيات فقط إذا كانت تليفونا ولا نقبلها كعمل فني؟ إذا تأملنا كل شيء في حياتنا اليومية سنجد أننا صرنا مختلفين تماما عن آبائنا وأجدادنا، لقد تغيرت أشياء كثيرة، وتراكمت خبرات جديدة لتأخذ مكانها إلي جانب الخبرات القديمة، صحيح أن القيم ستظل ثابتة ولكن التعبير عنها وعما يدور في الأذهان يتغير وسيستمر في التغير للتواءم مع المستحدثات والمبتكرات الجديدة، فعلي سبيل المثال فقيمة كالحب ستظل موجودة، ولكن التعبير عنها في الوقت الحاضر يأخذ صورا تختلف كثيرا عما كان يحدث في القرن التاسع عشر أو ما قبله. وختاما أعتقد أن من ايجابيات إقامة الفعاليات الدولية كبينالي القاهرة الدولي أو المهرجانات الثقافية الأخري المتنوعة، أنها تساعد علي تعويد البصر علي قيم بصرية حديثة متطورة، وتُفَتْحُ الأذهان لاستيعاب معارف ثقافية مختلفة ستساعدنا دون شك في إحداث طفرة فكرية ومجتمعية، تخرجنا من أسر الجمود والتمسك بقواعد قديمة. تحية لوزارة الثقافة بصفه عامة، ولقوميسير البينالي الفنان إيهاب اللبان ومدير قصر الفنون الفنان محمد طلعت اللذين بذلا مجهودا طيبا لإقامة عرض متميز جمعا فيه من الأعمال الفنية ما يرضي الجميع.