أطلقتْ الثقافة السائدة علي أ. د. سعاد صالح صفة المعتدلة وكنتُ عندما أقرأ لها أو أسمع أحاديثها التي تختلف فيها مع بعض الشيوخ، أحييها بقلبي، مثل موقفها من قضية (الخلوة بين المرأة والرجل) ففي حوار تليفزيوني أصرّ أحد الدكاترة الشيوخ علي أنّ الموظفة لايجوز أنْ تدخل مكتب رئيسها في شأن من شئون العمل، إلاّ بوجود (محرم) فاعترضتْ د. سعاد وأسّستْ حجتها علي أنّ مكتب الرئيس متاح دخوله لأي موظف في أي وقت.. إلخ، فأصرّسيادته علي رأيه، فسألته: حتي لو كان الباب مفتوحًا؟ فأجاب: حتي لو كان الباب مفتوحًا. في هذا الحوار أثنيتُ علي د. سعاد لكن بقلبي وليس بعقلي، لأنها في مواقف أخري لاتختلف عن موقف الأصوليين، إلي أنْ جاء حديثها الأخير في فضائية (خاصة) وتعرّضتْ للمصريين المسيحيين، وقالتْ إنه (لا ولاية لكافر، ولايمكن للأقل دينًا أنْ يولي علي الأفضل والأكثر دينًا). وإذا كان من حق د. سعاد أنْ تُعبرعن مرجعيتها الدينية، فالسؤال هو: ما الفرق بين قنوات التليفزيون التي تدّعي (الاستقلالية) وقنوات الحكومة؟ وألا يطرح هذا المثال حقيقة أخري تتمثل في إصرار مقدمي القنوات (الخاصة) علي استضافة الدعاة والداعيات الذين يعيدون صياغة ما يقوله دكاترة وشيوخ القنوات الدينية. فإذا افترضنا النوايا الحسنة في مقدمي القنوات التي يعتقد السُذج (من أمثالي) أنها ليست (قنوات دينية) لن تتبقي إلاّ حقيقة ساطعة لاهبة مثل شمس بؤونة، وهي أنّ مقدمي ومقدمات الفضائيات الذين يتحدثون عن (الوحدة الوطنية) وعن (الدولة المدنية) ويرتدون أحدث الموديلات العصرية، ناهيك عن المذيعات اللائي يظهرن بالشعراللامع والوجه المتألق بمساحيق التجميل، لكن يبقي (العقل) كنسخة كربونية من مذيعي الفضائيات الدينية. لكن هل (النوايا الحسنة) تكفي لصناعة مقدم برامج يتميز بالأداء الرفيع المجدول بالحيادية التي يستحيل توفرها مع غياب (المرجعية الثقافية) بمعني أنّ المذيع عندما يختار ضيفًا أوموضوعًا، فلابد من توافر الحد الأدني من (المعلومات) عن هذا الضيف أو عن هذا الموضوع . هذا (الحد الأدني) يوفرللمذيع (الخلفية المرجعية) للضيف: كيف يفكر، وماهو المتوقع منه.. إلخ، وفي مثالنا الحالي، ماذا يتوقع من د. سعاد وهي مقيدة بالمرجعية الدينية؟ الحفر في جرح مفتوح: تعرّضتْ د. سعاد كثيرا للهجوم من بعض الجماعات الإسلامية، باعتبارها تخالف بعض الثوابت في الدين الإسلامي، مثل رفضها للنقاب علي أساس أنه (عادة وليس عبادة).. إلخ، ولكن بعد حديثها عن أنه لا ولاية لكافر.. إلخ، رحّبتْ بها (كل) التيارات الإسلامية، وبالتالي بدأ الغوص في جرح الاحتقان الديني (المفتوح دائمًا والملوث بالصديد) بين أبناء شعبنا، فعاد النزيف مجددًا، فتجدّد الاستشهاد بالآيات القرآنية المؤيدة لكلام د. سعاد، مثل الآية الكريمة رقم 51 من سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصاري أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) والآية الكريمة رقم 17 من نفس السورة (لقد كفرالذين قالوا إنّ الله هوالمسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إنْ أراد أنْ يهلك المسيح ابن مريم وأمه) فإذا كانتْ د. سعاد لم تُفكر(بحكم تخصصها ومرجعيتها الدينية) في أثر كلامها علي أبناء شعبنا من المسيحيين، وعلي أثر هذا الكلام علي المسلمين المتعصبين، وإذا كان الأصوليون لايهمهم الاستقرار الاجتماعي، ولو كان الثمن تأجيج الصراع بين أبناء الأمة المصرية، وهو الصراع المؤدي إلي مزيد من الفتن المتجسدة في القتل وتدميرالممتلكات.. إلخ، وصولا إلي تحقيق هدف الرأسمالية العالمية والصهيونية الدينية، أي تقسيم شعبنا إلي شعبين وتمزيق الوطن (مصر) إلي وطنين . فإذا كان الأصوليون أصحاب المرجعية الدينية لايعون خطورة أحاديثهم المشعلة للنار في جرح الاحتقان الديني في وطن متعدد الأديان والمذاهب، فكيف ولماذا يتطابق مقدموا لفضائيات (في قنوات تبدو أنها غيردينية) مع الأصوليين؟ الإعلام وصناعة النجوم منذ سنوات تربّع فضيلة الشيخ الشعراوي علي عرش التليفزيون المصري، والشيخ الجليل لم يكن يمتلك فرقة مظلات ليهبط بها علي ماسبيرو، وإنما دخل بمعرفة المسئولين، فحاز شعبية ساحقة وتأثر به كثيرون. وهذا التأثر إنْ كان له جانبه الايجابي علي مستوي البُعد الروحي، فكان له أيضًا جانبه السلبي علي مستوي هدم الوحدة الوطنية بين أبناء شعبنا، ومن ذلك أحاديثه المعادية للمصريين المسيحيين، وإذا كان البعض سيتحجج بتقديم شرائط التسجيل، فإنني أحيله إلي حديث منشور أكد فيه علي أنّ المسيحيين كفرة، وضرب مثالا بحالة المسلم إذا رغب في الزواج بكتابية (نصرانية أو يهودية) فقال فضيلته (الزواج بالكتابية جائز. ولكن قبل أنْ تتزوّجها يجب أنْ تبادرها بهذا السؤال: ماذا تقولين في عيسي؟ لو قالتْ إله أو ابن الله فلا تكون كتابية بل كافرة وحينئذ لايجوز زواج المسلم بها) (مجلة آخرساعة 18/4/90) هنا نجد تطابق د. سعاد مع فضيلة الشيخ الشعراوي ومع كل الأصوليين، فمن صنع هؤلاء النجوم؟ ولماذا كان الهجوم عنيفًا علي الجماعات الإسلامية السرية (التي تعمل تحت الأرض) مثل شباب محمد إلخ؟ ولماذا روّج الإعلام للتفرقة بين هذه الجماعات وبين نجوم التليفزيون والصحافة الرسميين؟ ولصالح من يتم تدمير العقل المصري بتضليله عندما تضخ في رأسه وهم التفرقة بين (المعتدلين) و(المتطرفين)؟ فإذا كانتْ د. سعاد (معتدلة) رغم تطابقها مع من يهدمون وحدة شعبنا، فماذا ننتظر(أكثر من ذلك) من (المتطرفين)؟ وكيف يمكن تصنيف فضيلة أ. د. أحمد عمرهاشم الذي شغل المناصب التالية (رئيس جامعة الأزهرالأسبق ورئيس اللجنة الدينية في مجلس الشعب وعضو مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وعضو المجلس الأعلي للثقافة، والمشرف العام علي جريدة صوت الأزهر.. إلخ إلخ) الذي قال (الإسلام لايمنع التعامل مع غيرالمسلمين، لكن يمنع المودة القلبية والموالاة، لأنّ المودة القلبية لاتكون إلاّبين المسلم وأخيه المسلم) (جريدة اللواء الإسلامي العدد 153) كما أنّ سيادته أثناء أزمة رواية (وليمة لأعشاب البحر) ومظاهرات طلبة جامعة الأزهر الصاخبة والمدمرة، وبعد أنْ بدا أنّ الأزمة علي وشك النهاية، إذا بسيادته (يلقي علي بقايا النار كمية من البنزين، فأعاد إشعالها وتوهجها) (انظر: أ. حلمي النمنم: وليمة للإرهاب الديني- كتاب الحرية رقم 45عام 2000ص 80) فهل سيادته من (المعتدلين) أم من (المتطرفين) أم أنه وفق التعريف العلمي من الأصوليين الذين لايمتلكون إلاّ المرجعية الدينية الهادمة للانتماء الوطني؟ مع مراعاة أنّ ماقالته د. سعاد وما قاله الشيخ الشعراوي وماقاله د. أحمد عمرهاشم هو نفس الكلام الذي يقوله أعضاء التكفير والهجرة وتنظيم الجهاد وكل التنظيمات الإسلامية التي تُكفرالحكام والمحكومين ويصفها الإعلام ب (المتطرفة)؟! المسكوت عنه بعد حديث د. سعاد هو صمت المقابرالذي التزم به الإعلام، باستثاء بعض الأصوات الشريفة والنادرة مثل مقال د. خالد منتصر في جريدة المصري اليوم، والمسكوت عنه كذلك: مغازلة مايسمي (بأحزاب المعارضة) للأصوليين، فهذا حزب الوفد الذي رفض رئيسه مصطفي النحاس تتويج الملك فاروق في احتفال ديني، لتأكيد (علمنة مؤسسات الدولة) إذا بهذا الحزب يشكل لجنة (دينية) برئاسة الدكتورة التي تتكلم عن الكفار وعن ولاية الأكثرية الدينية للأقلية الدينية (=خضوع الأقلية للأكثرية) وعن «الأفضل دينًا» في مقابل (وفق المعكوس في اللغة العربية) «الأسوأ دينًا» وإذا كان ماحدث (مجرد نقطة) في بحرالاحتقان الديني الدموي، فكيف يمكن خروج مصر من هذا المأزق (النفق) الحضاري؟