عندما أعلنت منظمة الأممالمتحدة في عام 1948 قيام دولة اسرائيل علي ارض فلسطين.. قلب العالم العربي وجرحه الدامي منذ ذلك الحين، تمكن الغرب الأوروبي والأمريكي من غرس نبتته السامة في الأرض العربية ، آملا في أن تطرح أشواكها فيما بين النهرين الجليلين (النيل والفرات) اللذين قامت علي ضفافهما أعرق حضارات العالم القديم ، ومهد أعظم انجازاته الثقافية (السياسية والدينية والفنية واللغوية ). وفي مواجهة أصحاب الأرض الأصليين الشرعيين دأب هذا الكيان السرطاني المستحدث علي استخدام كل ما أمكنه من أسلحة عسكرية وثقافية .. بل وأثرية تختلق تاريخا مكذوبا لإثبات حقوق وهمية مضللة. كانت فلسطين جسرا عبرت عليه الأجناس والسلالات منذ أقدم العصور، والتقت عبره الرؤي والأفكار والصراعات ، خاصة من حضارتي مصر وبلاد النهرين ، فكانت كما اتفقت عليه الآراء - رافدا لا منبعا ، معبرا لا منشئاً. إلا ان دعاوي اسرائيل التاريخية وسعيها الدائم لإبراز دورها العلمي - باحثيها ودورياتها العلمية وأقسامها العلمية المتخصصة ومتاحفها - علي الصعيد الشرق أوسطي والعالمي ، دعاها إلي توجيه نتائج باحثيها لترسيخ واختلاق نتائج بعينها تجعل لباحثيها في مجال الآثار- لا سبيل إلي إنكار أهمية بعضهم في مجال دراسات ما قبل التاريخ بالذات- ومؤسساتها العلمية موضع الصدارة في الأدبيات العلمية والعالمية، وهوما يمكن رصده من خلال نتائج أبحاثهم وحفائرهم خلال الخمسين عاما الأخيرة. في عام 1971 نشرت الباحثة الاسرائيلية المتخصصة في عصور ماقبل التاريخ "جورن انبار" مع آخرين مقالا في دورية Journal of Human Evolution أشارت فيه إلي العثور علي لوح خشبي مصقول بيد آدمية في بنوت يعقوب ، وهوما اعتبرته الباحثة أحد الدلائل الأكثر قدما في العالم علي الارتقاءالحرفي والمعرفي خلال عصر البلايستوسين الأوسط (حوالي 240 ألف سنة ق.م). في عام 1980 نشر الإسرائيلي بار ادون كتابا بعنوان " كهف الكنوز" والذي تضمن العثور علي خبيئة في احدي ثلاث حجرات في كهف نحال مشمار في صحراء النجف ، والتي تضمنت 429 قطعة أثرية من النحاس (240مقمعة و86 لواء و10تيجان و8 أواني). اعتبرت أعمال النحت النحاسي التي عثر عليها في الكهف ، رغم ما تميزت به من تفرد تصميماتها (تضمنت أقدم نموذج معروف لهيئة الحيوانين المتدابرين في الشرق الأدني القديم) وأشكالها وجودة إخراجها، هي أقدم أعمال النحت المعدني في الشرق الأدني والعالم ، إذ نسبت - استنادا إلي تأريخ بواسطة الكربون المشع لبعض المواد العضوية التي عثر عليها في الكهف- إلي أواسط الألف الرابع ق. م، بحيث تسبق تاريخيا وتضاهي فنيا أروع أعمال النحت المعدني الشهيرة في الشرق الأدني القديم مثل: علاقا هويوك (بمنطقة الأناضول) وتبة حيسار III (في شمالي إيران). رغم أن ذلك التفوق لا يتسق مع معطيات مجمل الناتج الثقافي المعاصر في هذه الأقاليم. ألوية ورأس قتال من النحاس تباري الباحثون الإسرائيليون لإثبات صحة نسب القطع المعدنية إلي العصر الحجري النحاسي بسرد ما تحتويه من موضوعات لها ما يماثلها في مناطق بلاد النهرين وسوريا القديمة ومصر ، وزادوا علي ذلك فاعتبروا هذه الأعمال - اضافة إلي التفرد الصناعي والفني - أدوات طقسية ذات طبيعة احتفالية تعكس بناء اجتماعيا ودينيا متقدما ، بافتراض استخدامها في طقوس معابد أوحملها بواسطة كهنة أو أفراد من نخبة اجتماعية - حاكم أوكاهن أورئيس قبيلة أوعائلة - في مواكب أواحتفالات عامة ، وأنها نتاج لإشراف إداري متميز لمعبد كبير أوبلاط. في عام 1986 اشارت الإسرائيلية "جورن انبار" أيضا في مقال نشرته في دورية Mitekufat Haeven (أي العصر الحجري القديم ، وهي دورية متخصصة في دراسات ما قبل التاريخ ) إلي عثورها علي تمثال بازلتي في هيئة امرأة في موقع بركة رام شمالي الجولان السوري المحتل ، وقد نسبته الي العصر الحجري القديم الأسفل ( الأشولي الأعلي) حوالي 233 ألف سنة ق.م، دون أدني اعتبار لما احتواه الموضع من أدوات العصر الحجري القديم الأعلي (حوالي 15 ألف سنة ق.م). وسارع العالم الأمريكي "الكسندر مارشاك" ليبرهن علي أن الفحص الميكروسكوبي للتمثال يثبت التدخل البشري الواضح في تشكيله. وبذلك اعتبر تمثال بركة رام/ الجولان/ إسرائيل (هكذا) أقدم تمثال للأمومة في العالم - بما يسبق تاريخيا اقدم نماذج أوروبية وشرق أوسطية معروفة بما يزيد علي مائتي ألف عام - كما ربطته الدراسات بقدرات إنسانية رمزية لم تكن المصادر الكلاسيكية تنسبها الي الإنسان المنتصب صاحب الثقافة الأشولية.. تمثال بركة رام في عام 1986 أيضا نشر العالم الايطالي اليهودي "ايمانويل اناتي" كتابه " جبل الله ، حاركركوم" ، متضمنا نتائج حفائر اجراها في "جبل العديد" في صحراء النجف ، ومنها العثورعلي أقدم قدس اقداس باليوليثي في العالم ، والعثور علي العديد من التماثيل الظرانية ذات الهيئتين الآدمية والحيوانية التي تحمل دلائل التدخل البشري في التشكيل ، والتي تعد بهذا- مع تمثال بركة رام - أقدم تماثيل معروفة في الشرق الأوسط والعالم ، إذ تنتمي الي العصرين الحجريين الأوسط والأعلي ( 45000 - 36000 ق. م). في عام 1987 اشار مقال نشره "بار يوسف" و"ألون" في دورية Atiqot الاسرائيلية الي العثور علي قناعين حجريين - في متحف القدس الآن- في كهف نحال مشمار في صحراء اليهودية ، وقد نسب القناعان- وفقا لما عثر عليه في الكهف من عظام بشرية وأدوات ظرانية وجماجم مقولبة - إلي العصر الحجري الحديث قبل معرفة الفخار بحوالي 6000 ق م. كما نسب قناعان آخران من منطقة حبرون (كان أحدهما ضمن المجموعة الأثرية الخاصة بموشي ديان وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق) إلي نفس العصر نظرا لمشابهتهما لقناعي نحال حمار. اعتبرت هذه المجموعة من الأقنعة علي ذلك أقدم أمثلة معروفة للأقنعة ذات الهيئة الآدمية في العالم أجمع ، (هناك نماذج أقدم من ذلك ، ولكنها أقنعة ذات هيئة حيوانية صورت علي جدران بعض الكهوف في جنوبفرنسا من العصر الباليوليثي الأعلي) ، وبما يسبق أقدم نماذج مصرية معروفة - من هيراكونبوليس الجبل الأحمر بالصعيد / عصر نقادة- IIb بمايزيد علي 2500 عام، كما اشارت الدراسات الي ارتباط هذه الاقنعة بشعيرة الأجداد، واستطرد "جاك كوفان" - من جامعة ليون - فاعتبر الاقنعة دليلا علي ممارسة طقوس تضمنت أداء تمثيلىًا. قناعا نحال حمار وحبرون في كتاب عرض لأهم أعمال الفن في متحف القدس تناولت "تامار نوي" نقشا علي الحجر الجيري يمثل مقدمة حصان أوطائر (؟) من الكبارة شمالي اسرائيل ، ونسبته الي حوالي 40 ألف سنة ق.م ، وهوما يجعل منه أحد أقدم أعمال النقش في العالم ، ناهيك عن اعتباره الأقدم بين نظائره في بلدان الشرق الأدني القديم. في العقد الأخير من القرن الماضي تعددت الدراسات التي تناولت نتائج حفائر كهوف الجليلي وجبل الكرمل وأفضت الي وجود جنسي نياندرتال (الكبارة والعمود والطابون) والإنسان العاقل (قفزة والسخول) هناك خلال العصر الحجري القديم الأوسط ، وهوما يجعل من هذه المناطق من أهم المواقع في العالم فيما يتعلق بمنشأ وانتشار واتصال جنسي نياندرتال والانسان العاقل ، كما افضت الي العثور علي دلائل تشير الي اقدم دفنات بشرية اشتملت علي تقدمات حيوانية واستخدام علامات تجريدية للتعبير عن الافكار ووجود اشارات الي معرفة الزخرف والزينة لأغراض رمزية وجنائزية (أرجع ظهور السلوك الجنزي إلي حدوث تطورات تشريحية في المخ البشري تعد مسئولة عن حالات الوعي المتغير والتفكير الديني والروحاني) ، وهوما اعتبر دليلا علي قفزة معرفية هائلة في طريق الحضارة الإنسانية ولثقافة العصر الحجري القديم الأوسط. هكذا نشطت الآلة العلمية/ الاستراتيجية الإسرائيلية خلال خمسين عاما لتجعل من هذه البقعة الصغيرة من العالم بوتقة تجمعت فيها دلائل مختلقة علي أقدم مظاهر النشأة والارتقاء البيولوجي الإنساني (قفزة والسخول)، وأقدم الدلائل علي تطور السلوك المعرفي (الكبارة وقفزة والسخول والطابون)، وأقدم أعمال النحت المجسم في العالم وأقدم نموذج لتماثيل الأمومة (بركة رام ثم حاركركوم) ، وأقدم قدس أقداس باليوليثي في العالم (حاركركوم ) وأقدم نموذج للنقش التمثيلي في الشرق الأدني القديم ، وأقدم نموذج للأقنعة البشرية ( نحال حمار وحبرون) وأقدم نماذج للنحت المعدني في العالم ( نحال مشمار). إن وضع هذه الدعاوي العلمية جنبا إلي جنب مع ما نعرفه من ادعاءات الباحثين الاسرائيليين المعروفة فيما يتعلق بمعبد حتحور في سرابيط الخادم بسيناء مصر، وفيما يتعلق بطبيعة وأصل الكتابة السينائية وما يسعون دائما الي اثباته فيما يتصل بالوجود العبراني في شرق الدلتا ، ناهيك عن ادعائهم المثير للسخرية عن دور أجدادهم في بناء الهرم الأكبر ، ومقارنة أعداد التلال الأثرية داخل وخارج الجدار العازل بالأراضي المحتلة، وسعيهم لضم ونسبة المواقع الأثرية في الأرض المحتلة زوراً لإسرائيل، ومحاولتهم تهويد المواقع التاريخية والأثرية - وأهمها القدس - وموقف منظمة اليونيسكومن ذلك، كل ذلك يثبت أن العمل الأثري يدخل ضمن الأجندة السياسية لإسرائيل، وبما يكمل صورة ثقافية فسيفسائية تسعي العقلية الاستعمارية الاسرائيلية لاختلاقها وفرضها علي جدار الشرق أوسطية، لتزين خوذة الهيمنة الاستراتيجية بنجمة التفوق الأثري والثقافي ، مبرهنة علي أن اليد التي استباحت الأرض والبشر تعبث ايضا بالتاريخ.. ولِمَ لا؟ وهي دولة قامت في الأساس علي أكذوبة تاريخية كبري تستمد منها شرعيتها الواهية المكذوبة المطعون فيها. وهنا يبرز دور المقاومة "الأثرية" كسلاح فعال في يد الأثريين الشرفاء من العرب والأجانب لفضح تلك الأكاذيب وكشفها للعالم.