أعرف كريمة بدير راقصة أولي في فرقة وليد عوني للرقص الحديث، أعرفها بجمالها الفرعوني الوحشي، وقامتها المنتصبة ومشيتها الملكية. كانت كريمة عنصرا جاذبا في هذه الفرقة الطموحة وترك غيابها عنها فراغا ملحوظا.. ولكن يبدو أن أمورا أخري كانت تشغل بال كريمة، وأنها لم ترغب بأن تظل مجرد راقصة تؤدي ما يطلبه منها الآخرون، مهما كانت طلباتهم مشروعة ومستحقة بل أرادت أن تطير بجناحيها الواسعين.. وأن تثبت أنها قادرة علي الخلق الفني كما كانت قادرة علي التنفيذ المشرف. وها هي مسرحية دعاء الكروان المأخوذة عن قصة طه حسين الشهيرة والتي أعدتها للمسرح رشا عبدالمنعم وانتجها مسرح الغد.. تأتي لتؤكد موهبة كريمة في الإخراج والتي قد تنافس موهبتها في الرقص والأداء. كريمة في هذه المسرحية.. اكتفت بأن تقود العمل كقائد أوركسترا ماهر يعرف كيف يوزع عازفيه وأدواته. مزيج متناغم لقد حولت القصة الشهيرة إلي مزيج متناغم من الرقص والإنشاد والدراما الحركية والصوتية مستعينة بخبرتها الطويلة في هذا المجال.. لتقدم لنا رؤية عصرية متقدمة ومبتكرة لقصة آمنة وهنادي والمهندس العاشق. عرفت كيف تجعل الجسد يعبر .. كما يعبر الصوت .. وعرفت كيف تختار اضاءتها الهامسة المظلمة أحيانا.. المشرقة أحيانا أخري.. وعرفت كيف تضع أفكارا مجردة تقوي بها رؤيتها الدرامية كهذه الفتاة المصلوبة علي أعلي المسرح والتي ترتدي الثياب البيضاء والتي تبدو وكأنها شاهدة أبدية علي قدر نساء الصعيد ودمهن المراق.. كما عرف الإعداد كيف يضيف مشهداً مدهشا، لم يكتبه طه حسين .. ولم تقدمه السينما في الفيلم الرائع الذي أخرجه بركات.. وهو لقاء الأم والخال.. ثم لقاء الخال والمهندس العاشق.. الذي جاء إضافة باهرة للنص وتنويرا له. أما علاقة آمنة بالمهندس فقد عبرت عنها كريمة بدير بمشهدين لا ينسيان مشهد الحوار وآمنة علي كرسي والمهندس علي كرسي آخر، وساحة الفراغ بينهما تبدو مشتعلة .. تقرب بينهما وتفرق. أو مشهد اللقاء الجسدي الحار بين جسدين يتلويان علي الأرض، ثم مشاهد الجوقة النسائية وأسلبة العزاء الصعيدي بشكل راقص. العمل جديد ومبتكر ويسترعي الانتباه ويبشر بمولد مخرجة واعية تعرف كيف تستغل الجسد وتضعه في مقام واحد مع الكلمة، وتعرف كيف تعبر عن نفسها من خلال أدوات مسرحية تبدو وكأنها قد أحاطت بكل أسرارها. طقوس جنائزية عمل أدبي آخر.. يقدمه هذه المرة مسرح السلام باسم «طقوس جنائزية» لموزارت كتبه بالروسية «الكسندر بوشكين» وأعده للعامية «محمد صالح» .. وأخرجه «محمد أبو السعود»، العمل .. هو أشبه ما يكون بمونودراما وحساب عسير للنفس يقوم به إنسان يكاد يكون فاقدا لصوابه هو الموسيقي «سالياري» الذي كان منافسا لموزارت في حياته، والذي يشاع أنه دس السم للموسيقار العبقري لكي يتخلص من منافسته القاتلة. «سالياري» في مصحة للأمراض العقلية تسيطر عليه روح موزارت التي يقدمها العرض من خلال راقصة باليه تتراقص كالفراشة في كل أرجاء المسرح وحارس أصم أبكم يبدو وكأنه يمثل القدر الصامت الذي لا مهرب منه. المسرحية تؤكد تماما حقيقة أن «سالياري» قام بدس السم لموزارت وأنه يعيش الآن نتائج جريمته التي لم يستطع أن يعرقل بها شهرة موزارت.. بل علي العكس زاد من توطيدها فيما ساعد ذلك علي «قتله» هو معنويا وبشكل نهائي. نعرف أن صراع موزارت وسالياري كان موضوعا لمسرحية مدهشة كتبها الإنجليزي «شيفر» وقدمها للسينما ميلوش نورمان باسم «أماديوس» وحققت نجاحا منقطع النظير سواء علي الخشبة أم علي الشاشة. ولا شك أن الكاتب الإنجليزي قد استلهم مسرحيته الناجحة هذه من نص الروسي بوشكين الذي كتبه قبل عقود طويلة من الإنجليزي الموهوب. العمل بمجمله يحسب لمسرح السلام.. ويحسب لممثله الأول محمد صالح الذي لعب دور سالياري .. بشجن وهيستيرية في آن واحد. جو تراجيدي محمد أبو السعود حاول في إخراجه خلق جو تراجيدي .. مستغلا الموسيقي والإضاءة وعمق المسرح.. ونجح فيما يريد.. واستطاع أن يجعلنا نعيش دقائق طويلة مع رجل قتله الحسد والغيرة الكامنة في أعماق نفسه فمحت موهبته كلها .. وأحالته إلي مجنون يهذي علي أنغام بيانو تبدو وكأنها طعنات خنجر. مسرح الطليعة الذي يعتبر نفسه رائداً في مجال تقديم الأعمال الشبابية.. قدم كل إمكانياته الفنية لعرضيه الجديدين «حكمة القردة» و«آخر حكايات الدنيا» لكن خانه التوفيق في اختيار النصوص الملائمة للعرضين في آخر حكايات الدنيا .. رغم جودة الأدوات الفنية وقدرة الممثلين الملحوظة «أحمد الحلواني وكريم الحسين» فإن جنوح النص إلي نوع من الابتذال الحواري.. أخرج العمل عن دائرته المعتادة .. كذلك محاولة استدرار الضحك حتي لو لجأ إلي السخرية من بعض رموزنا الفولكلورية، كل هذا انعكس تماما علي العرض .. فأفقده هذه الجدية وهذه الطليعية التي يسعي إليها مسرح الطليعة. وربما كان هذا التحفظ ينطبق أيضا علي نص حكمة القرود الذي كتبه «عصام أبو سيف» وحاول المخرج الموهوب الشاب «محمد مرسي» الذي لفت إليه الأنظار العام الفائت في إخراجه المتقن والمثير للدهشة لنص بهاء طاهر «خالتي صفية والدير» والذي حاول هذه المرة اعطاء بعداً شعرياً وفانتازياً لهذا النص المسرحي الجديد الذي يعالج من خلال محاولة قط وقطة «الزواج» وقف قرد حكيم عائقا في طريق تحقيق هذه الأمنية عائدين بنا إلي مراحل متعددة من تاريخ مصر تبدأ من التاريخ الفرعوني وغزو الهكسوس وتنتهي بنصر أكتوبر!! ربما كانت الديماجوجية السياسية الرمزية والمباشرة سببا في خلخلة هذا النص الذي لم تستطع موهبة محمد مرسي الكبيرة أن تنقذه. بقي أخيراً مسرح مركز الإبداع الذي يمسكه الفنان خالد جلال بيد من حديد ترتدي قفازا من حرير .. والذي قدم لنا خلال المواسم الأخيرة أعمالاً لا تنسي حظيت بكثير من التقدير وكثير من الجوائز.. هذا العام يقدم لنا نصا شعريا حلواً.. لرشا عبدالمنعم أخرجه بحساسية ملحوظة هاني عفيفي .. ولكن رغم الرؤية المسرحية المتجددة والتي لا تخلو من ابتكار .. ومن غمزات عين مستحبة يبقي العمل متسما ببرود ما.. رغم الجهد الكبير المبذول من بطله الأول «هشام إسماعيل» والديكور الشديد الأناقة ل«سالي نظمي». ظل الحمراء ولكن الضربة الموفقة من مركز الإبداع جاءت بعرض ظل الحمراء الذي أخرجه وأعده «إسلام إمام» عن نص ساخر للكاتب السويسري «فردريل دورنمات» .. العمل يعود بنا إلي أسلوب «الكوميديا دلارت» الشهير وينجح بخلق إيقاع ضاحك مدهش بنقل أداء مجموعة من الممثلين المتدربين في المركز والذين وصلوا إلي درجة كبيرة من الإبداع والإقناع .. وشكلوا بحق ذخيرة جيدة لفناني المستقبل في المسرح. وتبقي كلمة أخيرة يجب أن توجه إلي مسرح الشباب الذي يؤدي دورا طليعيا مهما في إعداد مسرح نابض بالحيوية والحياة .. ومقدما فرصا لا تنتهي لمجموعة من الشباب المتحمس الذين اظهروا موهبة غير معتادة في العرض الجماعي الارتجالي الذي يحمل اسم «الشيزلونج» وأعادوه إلي أجواء الارتجال الفني .. الذي يمكنه أن يشحذ الكثير من الإمكانيات الكامنة لدي هؤلاء الشباب. أما العرض الثاني الذي يقدمه مسرح الشباب فهو عرض «المطعم» الذي أعده وأخرجه ولعب الدور الأول فيه الموهوب «أكرم مصطفي» عن مسرحية تركية معاصرة. العمل شديد الاتقان وشديد الحيوية يتمتع بديكور مرهف ومبتكر يجعل المتفرج جالسا في مطعم .. يشاهد ما يجري حوله من أحداث ترسم صورة فاجعة ليأس الشباب واحباطهم وتكافل الظروف الخارجية لتحطم كل ما بقي لهم من أمل، ولتدفعهم إلي بيع أرواحهم ورؤسهم للشيطان.. كما فعل قديما «فاوست» في مسرحية جوتة الخالدة. إسهام مشرف وحركة مستمرة طموح ومسرحيات علي اختلافها تخرج صارخة بصوت عال أن الشباب المسرحي المصري مازال قادرا علي العطاء .. وأن مسرحنا رغم كل ما يقوله البعض مازال صامدا لا يموت.