لا يبدو المشهد السياسي في العراق بعد نحو ثمانية أشهر من إجراء الانتخابات التشريعية مرشحا لإعلان تشكيل الحكومة الجديدة قبيل نهاية العام الجاري بسبب المواقف المتشددة للقوائم الأربعة الفائزة بالانتخابات للاستحواذ علي منصب رئيس الحكومة، أو ضمان مكتسبات جديدة في الحكومة المقبلة. ولا تزال الكتل السياسية الكبري التي حصدت غالبية مقاعد البرلمان " كتلة العراقية " بزعامة اياد علاوي 91 مقعدا ، و" دولة القانون " بزعامة نوري المالكي 89 مقعدا، و" الائتلاف الوطني المكون من التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدي الصدر والمجلس الاسلامي الاعلي بزعامة عمار الحكيم "70 مقعدا، و" تحالف القوي الكردستانية " 57 مقعدا - لاتزال في حواراتها ومفاوضاتها تراوح في مكانها لصعوبة تحقيق 163 صوتا داخل البرلمان العراقي لمنح الثقة إلي مرشح لتشكيل الحكومة المقبلة جراء ارتفاع سقف المطالب وسعي الجميع للحصول علي اكبر قدر من المناصب من كعكة الحكومة الجديدة. وأعطت مكونات التحالف الوطني التي تضم غالبية القوي والأحزاب الشيعية الضوء الأخضر لرئيس الحكومة المنتهية ولايته نوري المالكي ليكون مرشحا لرئاسة الحكومة المقبلة, لكن هذه الموافقة اصطدمت برفض المجلس الأعلي الإسلامي بزعامة عمار الحكيم, ابرز مكونات التحالف الوطني, وحزب الفضيلة الإسلامية علي ترشيح المالكي تحت ذريعة "عدم توفر فرص النجاح للحكومة المقبلة" ما لم تتحقق المشاركة الحقيقية للقوي السياسية التي ستشارك في الحكومة. المتغيرات في المشهد العراقي وعلي الرغم مما تقدم فإنه ومن خلال تحليل المشهد السياسي العراقي الآن نلاحظ حدوث مجموعة من المتغيرات علي الساحة السياسية الداخلية : اولها: اعلان القائمة العراقية سحب مرشحها لرئاسة لوزراء «اياد علاوي» وابراز اسم «عادل عبدالمهدي» نائب رئيس الجمهورية والقيادي الشيعي الكبير كمرشح لها وذلك بهدف ازالة بعض الاعتراضات التي كانت موضوعة علي اسم علاوي داخليا ثم كسر احتكار نوري المالكي للتيار الشيعي الموالي لايران وذلك بوضع مرشح بحجم عادل عبدالمهدي القيادي في المجلس الاسلامي الاعلي المحسوب علي ايران وثانيها: تأكيد المجلس الاسلامي الاعلي برئاسة عمار الحكيم انه لن يقبل مطلقا بنوري المالكي رئيسا للوزراء وتأكيد تحالفه مع القائمة العراقية برئاسة علاوي لدرجة اعلان الحكيم انه يقاوم ضغوطا ايرانية هائلة من اجل اثنائه علي التحالف مع علاوي ومحاولة اجراء لقاء يجمعه مع المالكي في طهران الا انه لايزال يرفض ذلك بشدة. وثالثها: اعلان الكتلة الكردستانية والتي تحوز 57 مقعدا في البرلمان قائمة من 19 بندا كأساس للتفاوض مع اي مكون سياسي عراقي لتشيكل الحكومة الجديدة وبالرغم من اعلان قائمة دولة القانون برئاسة نوري المالكي موافقتها علي البنود ال19 إلا أن هناك صفقة تلوح في الأفق بين القائمة العراقية والمجلس الاسلامي الأعلي والكتلة الكردستانية تقوم علي ترشيح «عادل عبدالمهدي» لرئاسة الحكومة وترشيح علاوي لرئاسة الجمهورية بعد توسيع صلاحياته السياسية والامنية وإن كان الحكيم يشعر بالحرج من مسألة ترشيح علاوي للرئاسة بسبب كونه أعلن تأييده من قبل للتجديد للزعيم الكردي «جلال طالباني» غير أن تأكيد «مسعود بارزاني» زعيم إقليم كردستان أن كل شيء مطروح للنقاش يؤكد ان ما يهم الكتلة الكردستانية هو تثبيت دعائم حكمها في الشمال مع تحقيق مكاسب سياسية اخري ستظهرها الاسابيع القليلة المقبلة من جراء التحالف مع علاوي والحكيم هذا فضلا عن وجود خلفيات سابقة غير مطمئنة بالنسبة لعلاقتها مع الحكومة العراقية المنتهية برئاسة المالكي وهو ما يدفعها للتحالف مع علاوي بقوة المعروف عنه التزامه بما يتفق عليه البحث عن حل خارجي وبعد انتقال مشهد البحث عن مخرج لأزمة تشكيل الحكومة العراقية الي دول الجوار العربية وغير العربية بهدف الحصول علي ضمانات منها بعدم دعم أي كتلة علي حساب كتلة أخري، وظهر ذلك بوضوح في زيارة رئيس القائمة العراقية إياد علاوي للقاهرة ولقائه الرئيس مبارك وزيارته للاردن أيضا والجولة التي يقوم بها حاليا «طارق الهاشمي» نائب رئيس الجمهورية والقيادي السني وشريكه في التحالف في المنطقة العربية لحشد الدعم للقائمة العراقية والترويج لها كونها تضم اطيافا سنية وشيعية متعددة وغير موالية لايران وهو الهاجس الاكثر اقلاقا لدول المنطقة خاصة السعودية التي لاتنظر بعين الرضا للمالكي والذي رفض استقباله في الرياض وكذلك في دول الخليج الاخري فضلا عن تركيا التي لا تستحسن علاقتها معه وكذلك الزيارة التي قام بها عمار الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الاعلي للقاهرة ايضا وهي الاولي من نوعها لزعيم المجلس وهي مع ما تمثله من انفتاح قوة شيعية مهمة بحجم المجلس الاسلامي الاعلي المحسوب علي ايران فإنها تشير الي التحولات البادية في الخارطة السياسية العراقية والتي دفعت برئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي للقيام بجولة موسعة في المنطقة بدأها بسوريا التي قاطعها قبل نحو العام ثم الاردن وايران ومصر وتركيا وتشير هذه الجولات للقادة السياسيين العراقيين الي تعقد مهمة البحث عن مخرج للازمة واللجوء للخارج من اجل ايجاد حل مناسب لها وان كان هناك محموعة من الملاحظات المهمة التي يمكن استنتاجها : اولها: ان هناك تحولات قد حثت في مواقف بعض القوي الاقليمية بل والكبري ايضا، فسوريا التي كانت اقرب الي تأييد «علاوي» لتشكيل الحكومة بدلت مواقفها بعدما زار رئيسها بشار الاسد طهران للتشاور وبعدها فتحت ابواب دمشق امام نوري المالكي ليزورها ويتحدث عن التعاون الثنائي بين البلدين وكذلك الموقف الامريكي والذي اصبح اقرب الي تأييد المالكي لرئاسة الحكومة الجديدة وكأن صفقة قد تمت في الخفاء بين طهران وواشنطن اي بين الشيطان الاصغر والشيطان الاكبر وهو وصف مستعار من قادة ايران. ثانيها: محاولة قادة وزعماء وأعضاء الكتل البرلمانية في جولاتهم الإقليمية إعطاء صورة للدول الإقليمية عن الكيفية التي يرونها لتشكيل الحكومة العراقية. الأمر الذي يؤكد أن القرار السياسي العراقي المستقل غير موجود رغم التصريحات والمزايدات الكثيرة التي يطلقها العديد من المسئولين العراقيين بهذا الخصوص . وأن هذا القرار ما زال يخضع لإرادات ومصالح الدول الإقليمية وليس وفق مصلحة العراق وشعبه . وهذه التصرفات تدل علي وجود حالة من الصراع المعلن تارة والخفي تارة أخري بين الكتل السياسية نفسها، وبين دول المنطقة أيضاً حول شكل الحكومة العراقية المقبلة. فالكتل العراقية مازالت تعاني حالة فقدان الثقة فيما بينها وكذلك مازالت تشعر، بل وتخشي من المؤامرات التي قد تتعرض لها في المستقبل إذا تولت هذه الكتلة أو تلك رئاسة الحكومة، لأن الأزمة الراهنة التي قد تطول بحسب رأي بعض السياسيين إلي شهور أخري مقبلة سببها منصب رئاسة الحكومة وليس برنامج الحكومة، لأنه حتي الآن هذا البرنامج لم يطرح، فضلاً عن ذلك وجدنا الكتلة العراقية ترفض رفضاً قاطعاً الاشتراك في حكومة يرأسها نوري المالكي . ومن هذا المنطلق بدأ علاوي والمالكي في تسويق نفسيهما علي الدول الإقليمية حتي يحصلا علي الدعم والتأييد من هذه الدول . ثالثها: ظهور مدي قوة ونفوذ دول الجوار وبخاصة ايران والسعودية وكلاهما تتحفظان علي مرشح الدولة الاخري فعلاوي الذي قام مؤخراً بزيارات إلي كل من سوريا ومصر والسعودية وكذلك زار الجامعة العربية والتقي أمينها العام عمرو موسي لم يقم بزيارة العاصمة الإيرانية طهران، رغم انه حاول الانفتاح علي هذه العاصمة عبر أكثر من محور ومن بين هذه المحاور سوريا وروسيا ودولة خليجية أخري، لكنه حتي الآن لم يفلح في إقناع الجانب الإيراني بأن يكون رئيساً للحكومة العراقية المقبلة . مما جعله يهاجم الطرف الإيراني ويصفه بأنه الأكثر تدخلاً في الشأن العراقي . في حين وجد علاوي دعماً جيداً ومقبولاً من العواصم العربية التي زارها . حيث أكد له قادة هذه الدول أن مسألة تشكيل الحكومة العراقية هي مسألة عراقية خالصة، ومن غير المقبول أن تخضع لرغبات وآراء الدول الإقليمية أو الدولية، بينما وجد علاوي عقبة أخري تقف في طريق طموحاته وسعيه في رئاسة الحكومة المقبلة وهذه العقبة تتمثل في رغبة الإدارة الأمريكية المخفية تارة والظاهرة تارة أخري في أن يكون رئيس الحكومة العراقية الجديدة مقبولاً عند الطرف الإيراني بسبب معرفة الجانب الأمريكي بمدي قوة النفوذ الإيراني في العراق . رابعها: ان رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي حاول تقديم بعض الاغراءات لدول الجوار للموافقة علي ترشيحه مجددا للحكومة وممارسة ضغوط علي علاوي لاثنائه علي هذه الخطوة ففي سوريا وقع اتفاقات كبيرة في مجال الطاقة والتعاون المشترك وفي مصر اعلن فتح المجال امام الشركات المصرية للاستثمار بالعراق وفي محاولة منه لمغازلة السعودية وانهاء القطيعة معها اعلن وزير داخليته جواد البولاني استعداده للافراج عن مائة معتقل سعودي في السجون العراقية وكلها محاولات لاعادة ترتيب الأوراق الإقليمية تجاه المالكي والذي يلاقي رفضا عربيا عدا دمشق بسبب ولائه المطلق لإيران وفشله في ايجاد توازن يذكر في علاقاته بالقوي العربية مع طهران العراق إلي أين ؟ ولذلك فإن الاسابيع المقبلة ستشهد حالة من الحوارات المكثفة بين مختلف الكتل العراقية للخروج من حالة الجمود الحالية وسيظهر فيها نتاج الجولات الاقليمية بين كلا الطرفين العراقية وائتلاف دولة القانون وما اذا كانت الورقة الكردية ستكون هي المرجح لكلاهما في هذا الرهان السياسي المحموم علي تشكيل الحكومة وان كان الاطار السياسي يمكن ان يتسع ليشمل ايضا منصب الرئاسة ورئاسة البرلمان حتي يتم ارضاء كل الاطراف السياسية للتحالف الاعلي حظوظا سياسيا والاكبر من ناحية المقاعد البرلمانية وعلي العراقيين ان يستمروا في تعايشهم مع هذه الحالة السياسية الغريبة والتي تعيد انتاج النموذج اللبناني من جديد في المنطقة العربية.