سبعة وثلاثون عاما مرت علي حرب اكتوبر .. من يتذكرها الآن؟ ثمة أربعة عقود تقريبا مرت علي تلك الحرب أنجبت مصر خلالهاأجيالا من أبنائها أكثر من نصف سكانها الحاليين لم يشهدوا تلك الحرب، لأن أحداثا أخري بعدها كانت شديدة الوطأة ردمت كثيرا من تفاصيلها، ولم يبق في الذاكرة منها سوي بعض المشاهد التي يبثها التليفزيون كلما حلت الذكري ، وبعدها تغيب أو تُغيب عن الذاكرة. كانت تلك الحرب من أهم وأطول الحروب العربية الإسرائلية وأكثرها تعقيدا وضراوة. وقد دخلها الشعب المصري ومن ورائه الشعب العربي من شرقه وغربه باعتبارها كانت حرب مصير. قرابة المليون من شباب مصر انضووا تحت لوائها مجندين واحتياط وأصلاء .. خاضوها مدرعين بحب ما في الوطن علي مدي ست سنوات كانت عجافا علي الوطن العربي برمته. وقد أفرزت تلك السنوات الضيقة الصعبة جيلا من الشعراء والأدباء والفنانين التشكيليين وغير التشكيليين.. عايشوا الحرب وخاضوها بوعي المقاتلين الأشداء علي العدو. وأعطوها مسحة من جماليات اليوتوبيا من خلال إبداعاتهم الثورية المتوهجة. قد يكون من المبالغة أن نطبق مقاييس "اليوتوبيا" الكاملة علي ماحاوله مبدعونا، وكانوا وقتها من الأجيال الشابة التي لم يجرفهم شرر إبداعاتهم مع شرر الحرب.. لكن الذي حدث حقا أن هؤلاء المبدعين قد توصلوا بمجاهداتهم الإبداعية إلي تخوم الرؤية اليوتوبية من خلال اكتشافهم لأنفسهم ولقواها التي كانت غائبة عنهم أولا، واكتشافهم للأرضية الإنسانية المشتركة التي أقاموا عليها علاقاتهم الجديدة بالوطن المثالي من وسط لهيب المعركة ثانيا. وسنتحدث هنا عن إبداعات الشعراء كنموذج لأن الشعر في كل القضايا الإنسانية ، ومنها الحرب بشكل خاص ، يكون أكثر استجابة وتوقعا وانتشارا قبل سواه من الابداعات الأخري. البحث عن الزمن اليوتوبي ربما لا نستطيع تحديد الوقت المنضبط الذي بدأ من عنده الشعراء الدخول في مغامرة البحث عن الزمن اليوتوبي . فقد عشنا جميعا ملحمة الحياة الصعبة علي مدي سنواتها الست ، والتي بدأت ببدايتها دفء الرؤية، وعلت حميتها عند نهايتها . فبعد أن تخلصت مشاعر الشعراء رويدا رويدا من حمي الإدانة والندب والصراخ / الفجيعة ، كان آخرها ما صرخت به قصيدة أمل دنقل " لا وقت للبكاء " حين قال: الشمس هذه التي تأتي من الشرق بلا استحياء كيف تري تمر فوق الضفة الأخري ولا تجيء مطفأة والنسمة التي تمر في هبوبها علي مخيم الأعداء كيف تري نشمها فلا تسد الأنف، أو تحترق الرئة وهذه الخرائط التي صارت بها سيناء عبرية الأسماء كيف نراها دون أن يصيبنا العمي؟ بعدها دخل الشعراء خفافا خفافا مرحلة الإفاقة الذاتية أولا ، ثم الجماعية ثانيا . إلي أن تلبستهم حالة من الوله الغريب بحب مافي هذا الوطن . وكان ذلك بمثابة اكتشاف جديد لطعم انتمائهم إليه . فاستعادت قواهم من ثم توازنها المفعم برائحة التخطي والبحث عن الجسارة . وقد أنبتت هذه المرحلة جيلا جديدا من الشعراء نموا وترعرعوا تحت وطأة نيران متقاطعة.. فكان عليهم أن يصحوا مع إشراقة كل صبح علي صوت نفير يصيح: أن هبوا. أو علي صوت مذيع يذيع بلاغا عسكريا مقتضبا ، ثم يخبُّون علي الأرض بأقدمهم فيلمسون سخونة رمالها الخشنة . فتوجهوا بما في كائنات قصائدهم لاستنبات البذرة الجنين في بطن هذا الوادي المتلهف شبقا لرائحة الحنين إلي حمل جديد. يقول الشاعر فوزي خضر: قرأت المدائن: أبراجها وسراديبها وقرأت القري وإذا ما وضعت الثمار علي أذني أسمع الدورة الأبدية ، أرقب جلد الجذور فألمح بدءا وموتا وبدءا يطل علي َّ فألمحني من ثنياتها اشرئب إلي َّ فتغدو الخطي أعصرا ويقول الشاعر وليد منير : تسألني أن أمنح النهر طريقا أن أحول الرياح عن مسارها لكي لا تختفي في وجهي الأشجار أن أغسل السماء في زرقة عينيك وأن أجدد البيعة والشهادة أن أستعيد وجهك الطالع من خرائط الحلم ومن حواضر البلدان . ويقول الشاعر صلاح اللقاني : طال الطريق الوعر بين الفجر والظلمة وسمعت صوتا خلته مطرا علي دربي لكنما قد كان وجهك يبتغي وطنا فبكيت من فرط الحنين وشقة السفر وعلمت ليس سوي دمي ترضي به ثمنا فاحلل .. رضيتُ بقسمتي وضراوة السفر . وغير هؤلاء كثيرون، خرجوا من معطف سنوات الجمر (1967 1973) وتكشف هذه القصائد عن نفسها بغير التواء أو نطاعة .. إنهم ماضون حثيثا في رحلة البحث المضنية عن ملامح امرأة ليست ككل النساء، إنها امرأة بحجم الأم إذا غا ب عنها الأبناء أو غابت عنهم، يتشممون رائحتها في كل ما تلتقي به حواسهم ، يبحثون عن ملامحهم في ملامحها المطمورة في بطن الوادي ، ويتوددون إليها بالشعائر والطقوس كي تخرج إليهم فتلتئم عظامهم بعظامها .. إنهم ( هي وهم ) إيزيس وأزوريس.. إنها مرحلة السفر إذن إلي وادي اليوتوبيا .. وقد بشروا به وبزمانه. زمن اليوتوبيا بحلول هذه المرحلة يكون قد حل الزمن المشهود.. حيث التقت إيزيس بأوزوريس ليدخلا معا دورة الحياة / البعث الجديد بكل ما يحملانه من عنف الوجد المنبعث من خلايا الكون بأسره .. حيث لايصير البشر بشرا، ولا الدم دما، ولا الحب حبا، ولا الموت موتا ، ولا الحياة حياة. إن كل شيء يتحول من معناه المألوف إلي ما فوق كونه الظاهر والكامن معا. إنه زمن الساعة الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر. حيث تحول كل مافي الوطن إلي ولادة حقيقية .. فقد استطاع الشاعر المقاتل الارتقاء بهذه اللحظة التي تساوي في عمر الزمن دهرا بكامله فيقيم عليها بكل ماأوتي من قوي شعرية وغير شعرية مدينته الفاضلة بكل كائناتها العجيبة المحببة ، والعلاقات التي تحكم كل ذلك داخل إطاره الإبداعي النشط. من هذه النماذج الشعرية العجيبة قصيدة " الرقص علي طلقات الرصاص " للشاعر أحمد الحوتي " فعلي غير ما نعرفه عن الحرب من قتل ودمار ،فإنه يحيلها إلي رؤي عاطفية حين يدخلها مفتونا بها ،مهتديا بجو الصلات الحميمة التي ينكسر تحتها زمن التخاصم والجوع : فماذا بعينيكِ غير الرصاص ولون الوجوه التي لخصت عمرها واستراحت وألقت إلي الرمل سر التواصل ، والذكريات تساقطن فوق المعابر مثل رياح الخريف فحاصرت شوقي وكسرت شقفة ما قد يخون وما قد تحجر تحت دمي لينفر من داخلي وجه أمي كوجه السويس.. والقصيدة طويلة وهادرة بالصور الشعرية الغنية بالدلالات والتي لا يكتبها إلا الشاعر المقاتل ومن ميدان الحرب الحقيقية . وكان بودنا أن نفرد هذا الموضوع برمته لقراءة هذه القصيدة علي مهل وروية ، ففيها مساحة من الحب تكفي لبناء جسر يعبر عليه المحاربون الذين يجيئون من بعده. كأن الزمان تخلف عند المعابر فصار المدي أول العمر، آخره والمدي فجوة والرصاص قناطر فهل ترقصين معي اليوم؟ وهل نعرف اليوم معني التخاصر؟ ومن الشعراء الآخرين الذين اهتدوا إلي قصيدة الحرب كمعادل موضوعي للحياة :عبد الصبور منير.. وكاتب هذا الموضوع في ملحمة كبيرة ضمها ديوان بأكمله. يقول عبد الصبور منير: لكن دورة الرحيل تبدأ من هنا مع الرمال والرماد فلترقبوا بعد سنين وجهي مع الصحراء إذ يزهر ، والسنابل إذ تملأ الحقول في سينا وتُفتح المنازل علي صبايا حرة الجنسية يخطرن في وادي النخيل في الأصيل علي عظامنا المنتشرة .. إن القصائد التي كتبها أصحابها من الميدان الحقيقي للحرب تتمثل في اتسام إيقاعاتها بالسرعة والملاحقة ، حيث لم يتوفر لأصحابها الوقت الكافي ولا المكان الهادئ ولا الأدوات الميسرة (بعضهم كتب قصائده علي علب السجائر وعلي أغطية خوذاتهم وعلي ستراتهم الميدانية). وبالرغم من ذلك جاءت أكثر صدقا وأشد انتماء للحرب . إضافة إلي جوها الساخن العنيف ، لأنها كانت خارجة لتوها من قلب اللهب المنتشر مابين السماء والأرض ، وكان علي الشاعر ألا يترك اللحظة المواتية تمر دون أن يقبض عليها بكلتا يديه ، ويحيلها إلي طلقة مباشرة في صدر العدو ، أو إلي قطرة حب دافئة إلي الوطن الأم .