لا يتعلق الامر بشخصي ، ولكن لهذه المواقف من الرئيس ومعه دلالات أعمق علي عمقه الإنساني .. أول مرة اصغيت فيها الي اسم اللواء طيار محمد حسني مبارك كان فيما تلي عام سبعة وستين مباشرة، لم أكن قد تفرغت للعمل الصحفي بعد، كنت أكتب عن الحرب في الصفحة الثقافية لجريدة المساء التي كان يشرف عليها الانسان الرائع عبدالفتاح الجمل - رحمه الله - وكنت علي صلة بانسان نادر أيضا العميد مصطفي كامل مراد - اللواء فيما بعد - كان في ادارة شئون ضباط القوات المسلحة بكوبري القبة، مثقف رفيع، واسع الاطلاع، كاتب للقصة علي استحياء، غزير الموهبة عرفني عليه صديقي القديم رياض سيف النصر، كنت في مكتبه وكان الحديث عن حرقة الهزيمة، عسر الأحوال واستنفار الروح بهدف التجاوز، لسبب ما تطلع الي الفراغ الذي يملأ النافذة، وقال ان الأمل معقود علي اللواء طيارحسني مبارك في التأسيس لقوات جوية جديدة وقوية بعد توليه قيادة الكلية الحربية، منذ ذلك الحين أصبح الاسم في ذاكرتي مرتبطا بأوصاف ايجابية ذكرها اللواء مصطفي مراد منها الارادة الحديدية، الجلد، سعة الافق، الذكاء، والسمعة الطيبة والعلاقات الحسنة مع الآخرين، في يوميات تالية سأتوقف عند مصطفي كامل مراد، انه احد الرجال القلائل الذين تتجسد فيهم قيم عليا، جاء الي الدنيا، درس وخدم القوات المسلحة، وانتهت حياته عندما استشهد في موقف تراجيدي . في عام تسعة وستين التحقت بدار أخبار اليوم، وأصبحت محررا عسكريا للأخبار تحت رئاسة الانسان العظيم موسي صبري، واعطيت عملي جهدي كله، ليس سعيا لمجد مهني انما مشاركة لبلدي في محنته، جندت قلمي وكياني للكتابة عن الانسان في الخطوط الأمامية، كان التنافس المهني صارما وضاريا، يحاسب المحرر في الأخبار اذا فاته خبر نشر في الأهرام، كان الاداء المهني في أفضل حالته سواء في الصحف الكبري أو الصغري.. وكان في مواجهتي محرر عسكري مخضرم عبده مباشر وهو مجايل لاستاذي صلاح قبضايا الذي شغلت مكانه، كان عبده مباشر وطنيا فياضا، مقاتلا بطبعه، له صلات واسعة بالقيادات العليا، خاصة صلة تربطه بالفريق محمد صادق مدير المخابرات الحربية وقتئذ، فكلاهما من الشرقية. اضافة الي النقد الاستثنائي الذي يمثله وجود الاستاذ هيكل، في مواجهة ذلك لجأت الي الاقامة الدائمة في الجبهة، ومن أرض الواقع حققت انفرادات خاصة ومهمة، لعل الوقت قد حان لتسجيل شهادتي علي تلك المرحلة، كنت مع زميلي مكرم جاد الكريم نتجول في الجبهة من بورسعيد الي مرسي علم جنوبا طبعا وفقا للنظم المعمول بها، يمكن القول اننا زرنا جميع الأسلحة والمواقع، وأتيح لنا دخول غرفة عمليات الفرقة الثامنة دفاع جوي وكانت من المواقع الحساسة جدا، جري ذلك مع قائدها البطل، العبقري، احمد سلامة غنيم، الذي لم يذكر اسمه إلا علي لساني خلال السنوات الأخيرة ولهذا المغوار الاستثنائي وقفة مني واطلالة، اللهم هبني الوقت والامكانية. دخلنا جميع المواقع حتي عام سبعين، فيما عدا سلاح الطيران، كانت القواعد الجوية محاطة بسرية قصوي، موصدة في مواجهة الاعلام، ولكن سمعة قائدها الذي تولاها بعد ان قاد الكلية الجوية كانت خارج الاسوار، اللواء طيار محمد حسني مبارك، اسم تردد علي مسمعي في الخطوط الامامية للجبهة، وفي لقاءاتي بالضباط الكبار، كان تدمير سلاح الجو جرحا غائرا في النفوس، وكان بناؤه املا كبيرا، لم يكن هناك ما يثير الحماس والامل مثل ظهور طائراتنا المقاتلة فوق رؤوس المقاتلين المتخندقين في الجبهة عند اتجاهها شرقا، كانت الارض تنطق بصيحة يهدر لها الوجود، من الضباط والجنود وهم يحيون الطائرات برفع الأيدي وقبضاتها، وكانت الطائرات تحرك اجنحتها ردا للتحية في حوار عجيب، بينما آخرون مشغولون بعد الطائرات المتجهة شرقا لاحصائها اثناء العودة والاطمئنان، جري هذا المشهد علي مرأي مني كثيرا، حفظت شكل الطائرات في جميع أوضاعها، كذلك اصواتها، مصرية واسرائيلية، لم نكن نعرف اسماء الطيارين إلا بعد استشهادهم، ولكن الاسم الذي كان يتردد في الجبهة مقترنا بالاعجاب والتقدير والاحترام، اللواء طيار محمد حسني مبارك.. قائد القوات. قائد القوات في المصطلحات العسكرية ما يستوقفني لما تحتويه من طاقات تتجاوز محدودية اللغة، من ذلك، »الحالة سكون« أي الاوقات التي تتوقف فيها الحركة، و»آخر ضوء« و»أول ضوء« اشارة الي الاوقات الفاصلة، أيضا قائد القوات، وهذا الوصف يستدعي الي الذهن علي الفور الطيران، كثير من الاقلام تركز علي قائد الضربة الأولي في حرب أكتوبر كأبرز انجاز لقائد القوات وقتئذ لكن في رأيي ان الانجاز الأعظم لقائد القوات الجوية هو بناء القوة البشرية لسلاح الطيران اثناء توليه الكلية الجوية، وبعد ذلك رئاسته أركان القوات، ثم قيادتها حتي عام خمسة وسبعين عند توليه منصب النائب لرئيس الجمهورية، أثناء قيادته للقوات كانت معرفتي باسمه من بعيد، كنت تواقا للقائه للحوار معه، حوار صحفي طبعا، لكن جميع الطلبات الرسمية التي تقدمت بها تم الاعتذار عنها، كانت القوات محاطة بستار كثيف صعب علي الاعلام اجتيازه، غير ان اسم قائدها كان يتردد، وكانت تحيطه هالة احترام وتقدير، سمعت عن لقائه بالرئيس عبدالناصر في قاعدة العريش، وسؤال الرئيس المفاجيء له: انت بتعمل ايه هنا؟، بعد هذا اللقاء قام عبدالناصر بترقيته مرتين استثنائيتين كان الاسم في ذاكرته ماثلا لما عرفه عنه، ولذلك اسند اليه اخطر مهمة بعد الهزيمة، بناء البشر الذين سيقودون الطائرات عقب كارثة مروعة، ليت الجيل الذي عاصر هذه السنوات والأجيال التالية، تسمع وتري شهادة قائد القوات التي تم تسجيلها في ثماني عشرة ساعة والمحفوظة الآن في وثائق القوات المسلحة، اتمني اذاعتها بالكامل علي أوسع نطاق، اتمني ان يكون الاحتفال بذكري اكتوبر القادمة حقيقيا، غير تقليدي، يبدأ باذاعة هذه الشهادة علي قنوات التليفزيون ثم شهادات كبار القادة، هذا عمل كبير انجزته القوات المسلحة منذ سنوات واتمني خروجه من الخزائن الي عقول الناس وارواحها، فشلت جميع محاولاتي ومحاولات الصحفيين العسكريين في اجراء حوار مع قائد القوات غير انني في عام سبعين نجحت في الحصول علي اذن خاص بدخول قاعدة جوية مهمة تقع علي الطريق الواصل بين بني سويف والفيوم، اسمها غريب، اتصور انه مصري قديم »دنوبل« ليس دخولها فقط، انما الطيران علي احدي طائراتها وكانت المرة الأولي التي ارتفع فيها عن الأرض، أهمية هذه القاعدة انها كانت مركزا لانطلاق القاذفات الثقيلة من طراز تي يو 61 أو الباجرا، وكانت من القاذفات الاستراتيجية المزودة بصواريخ بعيدة المدي يمكنها ضرب حاملات الطائرات الأمريكية، لم تزود قيادة الاتحاد السوفيتي أي بلد حليف بهذه الطائرات الا مصر بعد بدء حرب اليمن، وكان الطيار محمد حسني مبارك ضمن اول بعثة سافرت للتدرب علي هذه القاذفات وخلال لقاءاتنا به في معرض الكتاب حدثنا عن أيامه هناك اكثر من مرة، هذه القاذفات كانت أول ما قصفته اسرائيل في يونيو، لا أعرف مجمل اللحظات القاسية المؤلمة التي مرت بقائد القوات، لكنني أثق انها لحظات رؤيته القاذفات الثقيلة تتحطم أمام عينيه ويأكلها اللهب، وأضطراره هو النسر المحلق مع رفاقه الي ركوب القطار وعودته من أسوان الي القاهرة، تذكرت ما عرفته من هنا وهناك تلك الليلة عميقة العتمة ونحن نتأهب »أنا وزميلي مكرم جاد الكريم« لركوب احدي القاذفات الثقيلة، وتجربة الطيران في قاذفة استراتيجية تخلو تماما من وسائل الراحة أمر ليس سهلا، في تلك الليلة حلقنا فوق دولتين شقيقتين السودان وليبيا، ان الجولة التدريبية لهذه القاذفة تحتاج الي مساحات شاسعة، وكانت الاتفاقيات والترتيبات مع القطرين الشقيقين وقتئذ تسمح بذلك، في هذه الليلة سمعت من تلاميذ قائد القوات الكثير عن شخصه، قدرته علي العمل المتواصل، ذاكرته الحديدية خاصة فيما يتعلق بالتفاصيل، حزمه ورقته ايضا وعدم ميله الي الأذي أو إلحاق الضرر إلا اذا تعلق الأمر بمخالفات جسيمة تعرض القوات للخطر. أيام عديدة مرت، رأيت قائد القوات يتقلد رتبة الفريق، في مجلس الشعب، واذا لم تخني الذاكرة، قلدها له الرئيس القذافي في حضور الرئيس السادات، وكان احتفالا مهيبا. أصبح قائد القوات، نائبا للرئيس، رأيته أول مرة مرتديا الملابس المدنية في قصر عابدين، كان يرأس لجنة تدوين تاريخ مصر المعاصر التي أصدر الرئيس السادات قرارا بتشكيلها، وكان المرحوم موسي صبري قد كلفني بمتابعتها. اتصال ليلي فيما تلي ذلك جرت مياه كثيرة في النيل، أصبح الرئيس محمد حسني مبارك رئيسا للجمهورية، وبقدر ما حوت السنوات الأولي من أخطار بقدر ما كانت مصر مشحونة بآمال التغيير الي الأفضل والأعقل، بقدر ما نشعر به الآن من قلق وخشية من مجهول قادم لا نعرف ملامحه، انتظمت اللقاءات الفكرية مع المثقفين عبر مناسبتين رئيسيتين، افتتاح معرض الكتاب السنوي، وعيد الاعلاميين، وخلالهما جرت مناقشات حرة وثرية، شاركت في بعضها، يصغي الرئيس باهتمام الي من يحدثه، لديه حاسة قوية في تقييم الناس، يدرك من يتحدث عبر منطلق عام يستهدف منه الصالح، أو من ينطلق من مصلحة أو رؤية شخصية، لكن في كل الأحوال ثمة شيء فيه يشجع محدثه علي القول، علي البوح، حدث في نهاية الثمانينيات ان جرت مناقشة عنيفة حول حرب الاستنزاف كان طرفاها كاتب هذه السطور والدكتور عبدالعظيم رمضان رحمه الله وشارك فيها الاستاذ وجيه ابوذكري - رحمه الله - ابدي الرئيس ملحوظة في المعرض حول اسلوب النقاش عندما وقف الدكتور عبدالعظيم متحدثا، وشعرت ان الموقف الآخر، ليس واضحا، هنا اندفعت واقفا، رافعا يدي، تطلع الرئيس اليّ بدهشة، كنت منفعلا وتحدثت عن المنطلقات التي دفعتني الي الرد علي الدكتور رمضان، بعد ان بدأت الحديث قال الرئيس »تفضل اقعد« إلا انني لم أقعد وواصلت الحديث، وعندما كرر الرئيس »تفضل اقعد« قعدت وأنا ارتعش انفعالا. في الليل، حوالي الثانية عشرة فوجئت بالهاتف يرن كان المتحدث صديقي العزيز جدا الدكتور مصطفي الفقي، وبتلقائيته قال مباشرة »جمال.. انا كنت مع الرئيس منذ دقائق، سألني عما اذا كنت اعرفك شخصيا، قلت انك صاحبي، طلب مني ان انقل لك رسالة، لم يكن قصده ان يقمعك أو يوقفك عن ابداء رأيك، ولكن الجو كان متوترا، والنقاش يحتاج الي هدوء في قضية كبري وحساسة كهذه.. طلبت من الدكتور مصطفي ان ينقل الي الرئيس شكري العميق لانه في خضم مشاغله يتذكر شأنا دقيقا كهذا، غير ان الموضوع كانت له دلالته بالنسبة لي علي عمق البعد الانساني في شخصية الرئيس، حدثني الدكتور زكريا عزمي انه كان بحكم واجباته يعرض علي الرئيس جميع الصحف التي تصدر، بما فيها الصحف التي كانت تنشر عناوين رئيسية تتعرض لشخص الرئيس وسياساته في سابقة تعد الأولي في الحياة السياسية المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة زمن محمد علي باشا، يقول الدكتور زكريا عزمي انه لم يكن يبدي غضبا بل كان يبدي قدرا كبيرا من التسامح والصبر معلقا انها الديمقراطية، في عام ستة وتسعين جرت واقعة اخري تحتل ركنا ركينا في ذاكرتي. كليفلاند بدأت أزمتي الصحية في ابريل عام ستة وتسعين، دونت تفاصيلها في »كتاب الألم«، في مايو قرر الدكتور جلال السعيد اجراء جراحة كانت بمقابيس الوقت معقدة، تشمل صمام القلب والشرايين أيضا، ولم يكن في العالم وقتئذ إلا عدد محدود من الاطباء يمكنهم اجراءها، احدهم في جرينوبل بفرنسا، والآخر بكليفلاند في الولاياتالمتحدة، بذل الصديق الزميل الكبير جلال دويدار والفنان فاروق حسني وزير الثقافة مساعي كبيرة لاستصدار قرار علاج علي حساب الدولة، كان رئيس الوزراء الدكتور كمال الجنزروي، ولم يكن يوافق علي سفر أي مريض الي الولاياتالمتحدة، وبالتحديد إلي كليفلاند، وقد اخبرني من اثق به ان ذلك كان بسبب اعجاب الدكتور عاطف صدقي بمستشفي كليفلاند التي اجري بها عملية قلب مفتوح، هذا ما نما الي علمي وقتئذ كسبب لتأخر القرار، علم الزميل محفوظ الانصاري رئيس وكالة الشرق الاوسط وقتئذ بالامر، ومحفوظ تربطه بالرئيس صلة قوية، وفي مأدبة العشاء المقامة تكريما للرئيس جاك شيراك اثار الموضوع امام الرئيس الذي امر بسفري إلي الولاياتالمتحدة علي الفور، وخلال المحنة التي نزلت بأسري مؤخرا بمرض رفيقة عمري ، لقيت دعما من الرئيس والسيدة الفاضلة قرينته. مثل هذه الواقعة تكررت مع كثيرين، فالامر يمثل سمة اساسية في تكوين الرجل الذي كان اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة خلال قيادته للقوات الجوية واعدادها للحرب تماما مثل اهتمامه بالكليات والامور الاستراتيجية. لا يقتصر الامر علي شخص فما من اديب أو فنان تعرض لمكروه أو لحقت به علة إلا وبادر بمجرد علمه للاتصال والمؤازرة المعنوية، كثير من هذه الاتصالات غير معلن، إلا ان احدي سمات الرئيس هو ادراك مصدر القوة الخاصة لمصر من خلال ابنائها المبدعين، اشار إلي ذلك صراحة في احد مرات اللقاء الفكري بالمعرض منذ سنوات، عندما اشار إلي الجالسين قائلا: ما هي مصر تكتسب قيمتها منكم..«. وفي خضم الصخب الذي يعم حياتنا الان، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا، فانني اميل إلي التأمل الايجابي والرغبة في فحص الاحوال التي قدر لي ان اعايشها من مواقع مختلفة علي امتداد نصف قرن، لقد جنبت خصاله القيادية مصر الكثير من المخاطر في ظروف عالمية ومحلية مضطربة ، ورغم كل المصاعب اشعر ان قلب مصر يتجدد، يموج بالحركة ويضخ الامل، وعندما رأيت الصور الخاصة باستئناف الرئيس لنشاطه شرعت في تدوين هذه الشهادة التي تخص ابعادا عامة وخاصة تتصل بالرئيس وملامحه الانسانية، وسعة صدره، وايضا ما اكنه تجاهه من امتنان ومودة.