ما ظل يحيرني كيف أقام الفريق طيار أحمد شفيق من البنيان المتهالك صرحا، وكيف دبر هذا التمويل كله بدون أن يكلف الخزانة العامة عبئا.. سمعت اسمه مرارا خلال عملي كمحرر عسكري للاخبار: كان طيارا علي المقاتلات وعلي نوع هام منها »الميراج« كانت الطائرة ذات امكانيات عالية اهم ما فيها المدي الطويل الذي كانت تفتقر اليه المقاتلات الروسية ذات الكفاءة القتالية العالية والمدي القصير. الميراج طائرة فرنسية الصنع، وكانت الاسراب المكونة منها متمركزة في قاعدة المنصورة القريبة من قرية شاوة، ولو ان تاريخ هذه القاعدة والمنطقة المحيطة بها خرج الي الناس لقرأنا مواقف انسانية عظيمة الذري، ولكن لا ادري لماذا حجب التفاصيل عن مناطق الضوء في الذاكرة الوطنية رغم مرور سبعة وثلاثين عاما علي انتهاء حرب اكتوبر، خلال هذه المرحلة كانت تتردد اسماء طيارين قاموا بمهام استثنائية منهم طيار المقاتلات احمد شفيق. غير انني لم التق به الا في الندوة الدولية التي اقيمت بمناسبة بمرور خمسة وعشرين عاما علي حرب اكتوبر والتي حضرها قادة القوات المسلحة الذين تقاعدوا بعد حرب اكتوبر او الذين كانوا في الخدمة وبينهم قائد القوات الجوية وقتئذ الفريق طيار احمد شفيق. مرت السنوات واصبح وزيرا للطيران ولكم تعاقب الوزراء علي هذا الموقع المهم في الدولة لكن تجربة أحمد شفيق- تدعو أي مهموم أو معني علي اي مستوي بمستقبل الوطن وادارة الدولة الي التوقف والتأمل- تجربة الرجل الي جانب تجارب اخري في مواقع متعددة اذكر منها ما يجري في الاقصر وما قام به الدكتور سمير فرج وعادل لبيب في قنا، ومن قبل الدكتور محمد غنيم في المنصورة ، والان مجدي يعقوب في اسوان ، اهمية هذه الامثلة انها تثبت القدرة علي الانجاز اذا ما احسن اختيار الشخص وتوافرت فيه الارادة والنزاهة وحسن القصد، غير ان تجربة الفريق احمد شفيق ذات وضع استثنائي، فهي لم تتم في موضع بعينه، ولكنها ذات صلة وثيقة بمصر كلها، والشركة الوطنية التي تصل طائراتها الان الي معظم عواصم الدنيا، الشخص له وضع استثنائي في مصر، العلاقة بينه وبين المؤسسة جدلية، فهو نتاج المؤسسة، وهو الذي يصبغ المؤسسة بطابعه، الأمر كما ذكرت يتعلق بدقة الاختيار والتكوين الذاتي للشخص. كنت اتابع التطور المبهر في المطارات المصرية، والتقدم الحثيث في الشركة الوطنية للطيران من شركة متواضعة الحال، الي شركة تتفوق الان علي مثيلات كبري لها، بدءا من طرز الطائرات الحديثة، وتنوع الاسطول الذي تجاوز الان الثلاث والسبعين طائرة أي انه تضاعف تقريبا ثلاث مرات منذ ان تولي الفريق احمد شفيق المسئولية اما علي مستوي التقدم في الامكانيات والتفاصيل فهذا ما يشعر به آلاف المسافرين يوميا، انني مسافر قديم علي مصر للطيران، قبل مرحلة الفريق احمد شفيق كان السفر عليها اضطرارا عند القيام بالمهام الرسمية، اما الان فانني اضع لها الاولوية، وعندما اتلقي دعوة من اي مؤسسة او جهة اطلب ان يكون سفري علي مصر للطيران، العنصر الاول انضباط شديد في مواعيد الطائرات حتي انني لا ابالغ اذا قلت انه يمكن ضبط الساعة علي تحرك الطائرات، اضافة الي تحسن الخدمة والطعام لقد كنت اكتب ملاحظات قاسية في الماضي، ولكن الان لا اجد الا الاعجاب والاشادة وبالطبع الدهشة من الادارة المصرية التي تقدم الينا المستحيل اذا احسنت القيادة، وفي تاريخنا الوطني الحديث نماذج عظمي مثل ادارة قناةالسويس منذ التأميم حتي الان. وادارة بناء السد العالي، وادارة حربي الاستنزاف واكتوبر، هذه التجارب العظمي تثبت ان المصريين اذا ارادوا انجزوا، اذن يولد تساؤل في المقابل، لماذا التقاعس والتراجع واليأس في مراحل بعينها. ارجو ان يخرج الفريق احمد شفيق ليقص علي الناس تفاصيل ما قام به ونفذه خلال السنوات الماضية منذ توليه وزارة الطيران كيف حشد الطاقات والخبرات لبناء اجمل مطارات الشرق الاوسط، بل ان المبني الثالث في المطار يعد من اجمل مطارات العالم، وان كنت اقترح اضافة بعض قطع الفن المصري القديم والحديث لابراز خصوصيته، لقد زرت دولا نفطية ثرية في العالم العربي ودولا عظمي أقول عن رؤية ومعاينة ان المبني الثالث له مرتبة الاجمل والاكثر تنظيما، الاهم من جمال المبني هو الحفاظ عليه، يقال دائما ان الامور في مصر تبدأ من مستوي الكمال ثم تنحدر المطارات الجديدة تزداد تألقا، لماذا؟ المتابعة الصارمة ، يقول أحد القريبين من الفريق أحمد شفيق أنه حدد المسافة التي يراها المسافر في الذهاب والاياب وطبقا لتصميم المطار حددها بمائة متر، خصص لكل مسافة عربة نظافة وعمالا لا يكفون عن التلميع وازالة المخلفات، وتعليق لافتات في حالة وجود امر طاريء مع اعتذار المتابعة الدؤوبة والصراحة اساسية في القيادة والادارة، يقول الفريق احمد شفيق في احد احاديثه، اذا وجدت خللا فانني لا أعرف المجاملة ويقول ايضا كلما كان الانسان ضعيفا في تكوينه فانه يكون اكثر عدوانية وكلما كان واثقا متمكنا يصبح اكثر ثقة وبساطة، ويقول ايضا، اذا اقتنع الناس واحبوا المسئول يتمثلون ما يقوم به ومع ظهور بوادر النجاح يصبح الارتداد أقل. لا .. للوساطة يتحدث الفريق احمد شفيق بساطة وعمق وحزم ايضا ودائما يضرب الامثلة مستندا الي المؤسسة التي تعلم فيها وتخرج منها. سلاح الطيران، اذكر انه كان يتحدث عن حربي الاستنزاف واكتوبر عندما قال عن مطار شاوة قرب المنصورة هذا المطار مثال مصر زمن المواجهة، من أهم ملامح ادارته انه لا يقبل الواسطة وانتشار الواسطة في مصر مؤثر علي زيادة معدلات الفساد وقد رأيت امثلة كثيرة خلال الاعوام الماضية بعضها يدخل في اللا معقول، وفي الماضي كانت الوساطة تتم لخدمة الفقراء واصحاب الحاجات. الان تتم لخدمة الاقارب وذوي الصلات الحميمة، او لتسديد خدمات مقابل خدمات، اذكر انني في الثمانينات كنت مسافرا علي مصر للطيران، ولاحظت ان جميع ركاب الدرجة الاولي بلا استثناء لم يدفعوا الثمن الحقيقي للتذكرة، انما حصلوا علي مقاعدهم عن طريق الترفيع اي بتأشيرة من»....«. هذا ما ألغاه الفريق احمد شفيق بحزم، الاهتمام الشديد بالتفاصيل الصغيرة، بنفس المستوي الذي تصدر به القرارات الكبيرة احدي سماته الاساسية ايضا الاصغاء الجيد وهذه ميزة كبري في بلد تصيب المسئولين الكبار بالصمم عن سماع النقد او الملاحظات التي يبديها الكتاب والصحفيون واصحاب الضمائر الحية.بجوار مكتبه غرفة اجتماعات انيقة جدا، علي الطراز الانجليزي، صنعت كلها في ورش مصر للطيران، اما مجموعة المبني المحيطة بوزارة الطيران فاصبحت تشكل نسقا معماريا جميلا. لكن يظل السؤال قائما كيف انتقل بحال مصر للطيران من التخلف والتدهور الي ما هي عليه الان وكيف وفر التمويل لهذه المطارات التي تتسم بالجمال والنظام وتعتبر افضل المداخل الي مصر وآخرها مطار جميل يستلهم التراث المصري القديم في العمارة وقد شيدته القوات المسلحة في سوهاج. طريق صعب من السهل انشاء مؤسسة جديدة بخبرات قديمة وحديثة، لكن الاصعب هو اعادة صياغة مؤسسة شبه منهارة أو خاسرة، او متخلفة كان من الطبيعي ان يجد مقاومة من جانب بعض العاملين في مصر للطيران والذين استكانوا الي اوضاع تسبب ظروفا سلبية في العمل وبنيان الشركة يضرب الفريق احمد شفيق مثالا بطيار كان يعرف مستواه المهني فوجيء به يقلع بطائرته المتجهة الي نيويورك، وعندما تساءل عن السبب الذي دفع به الي قيادة الطائرة عبر الاطلنطي، قيل له انها الاقدمية، اذ انه امضي عددا من السنوات تكسبه أقدمية، عندئذ قرر وضع مباديء اساسية تحكم توزيع الطيارين علي الخطوط المختلفة والمتجهة الي العالم، ان عبور الاطلنطي يقتضي خبرة خاصة، ولذلك لا يسمح الا للطيارين ذوي الخبرات العالية »الفئة أ« في قيادة الطائرات، يعاون كل منهم طيار من الفئة التالية مباشرة، يقول الفريق احمد شفيق ان الطائرات الضخمة سهلة القيادة، يكفي تشغيل النظام الالي بعد الاقلاع، لكن متي نحتاج الي كفاءة الطيار؟ عندما تختل الظروف في الطواريء تظهر قيمة الخبرة والقدرة علي التصرف، هنا يجب الاشارة الي الخبرة العالية التي يتمتع بها طيارو مصر للطيران عموما والتي ترجع الي قدم مدرسة الطيران المصري وخلال اسفاري اصغيت كثيرا الي تصفيق الركاب خاصة الاجانب بعد تمام ملامسة الارض لنعومة الهبوط والاقلاع لقد بدأت مرحلة اعادة التنظيم ومهما كانت صعوبتها الا ان المردود الايجابي للاصلاح والتطوير بدأ ينعكس علي الجميع وعلي سمعة الشركة يؤكد الفريق احمد شفيق علي اهمية العمل الجماعي للادارة، وان المستوي الذي وصلت اليه مصر للطيران الان تم بجهد جميع العاملين. اما عن التمويل وتدبير المال اللازم لبناء المطارات، وشراء الطائرات الحديثة فمثل اعادة هيكلة الادارة، الصعوبة دائما في البداية عندما طلب تمويل بناء ثلاثة مطارات من البنك الدولي في البداية، مع ظهور المطارات الي الواقع، وانتظام السداد اقبلت المؤسسات الدولية للتمويل تعرض رغبتها في المساهمة وهذا ما يجري الان مرة اخري اسمع اسم الوزيرة فايزة ابوالنجا وزيرة التعاون الدولي التي تسهم جهودها في تدبير مصادر التمويل للمشاريع الكبري التي تتم في مصر الان عندما بدأت رحلة العودة الي مصر من نيويورك في اول نوفمبر الماضي، كان طريقي الي المطار يمر بحافة من التأثر والانفعال، كنت في نهاية رحلة علاجية استغرقت اكثر من اربعة شهور رعتني فيها مؤسسات الدولة والاصدقاء ومنذ لحظة الازمة الاولي قرر الدكتور محمد عهدي فضلي رئيس مجلس الادارة ان تتولي الدار دعم العلاج وتغطيته ، وهذا مبدأ في الدار تعمل به منذ ولاية الاستاذ ابراهيم سعده والذي امر باستئجار طائرة اسعاف خاصة لنقل الاستاذ سعيد سنبل الي لندن عندما استفحلت ازمته الصحية، وشملت هذه الرعاية عددا من الزملاء مروا بظروف صحية وعرة خلال السنوات الاخيرة، مما يعكس انسانية الادارة في التعامل مع الذين بذلوا جهودهم لخدمة أخبار اليوم والتي يتمتع العاملون بها بافضل نظام رعاية طبية متاح مما يجعل الانسان آمنا من اخطار الدهرو كانت لحظات كثيفة المشاعر وانا اقطع الطريق برفقة خالد المهاجر المصري الذي تعرفت عليه صدفة في نيويورك، ثم لازمني في اللحظات الحرجة، وتلك تفاصيل سأعود اليها فيما بعد، عند وصولي مطار جوزيف كندي كان القسم الخاص بمصر للطيران مزدحما بالحجاج الي بيت الله الحرام، كان الزحام شديدا، لمحني جمال حامد مدير المحطة ومساعده عمر، جمال حامد رجل هاديء الملامح، اتفاءل دائما بملامحه الطيبة عند وصولي وخروجي من الطائرة لاجده واقفا امام الباب في استقبال الطائرة روح جديدة تسري بين العاملين في مختلف انحاء العالم، مررت باجراءات السفر التي اعتدتها وعندما رأيت الطائرة قبل وصولي اليها كاني رأيت ملخصا للوطن ان رؤية الطائرة والحروف العربية وحورس ابن إيزيس واوزيريس والذي يثير وجوده علي الفخر حاليا ، وعلي الذيل في المطارات البعيدة تختلف تماما عن رؤية الطائرة رابضة في مطار القاهرة او اي مطار مصري علي ارض الكنانة، في البلاد النائية تتحول الطائرة الي رمز، قال لي جمال حامد ان اليوم اول نوفمبر وهذه الطائرة الضخمة من طراز بوينج تطير لاول مرة علي الخط كنت اعرف ان الطائرات الجديدة قد بدأت العمل علي خط لندن وها هي تبدأ علي خط نيويورك الذي اسعي عبره كثيرا خلال السنوات الاخيرة، عندما دخلت الطائرة فوجئنا انني داخل مكان رفيع الذوق في الالوان والاضاءة، ومستوي خدمة متقدم جدا كنت اري انتاج وثمار ادارة عصرية قادها الفريق طيار احمد شفيق بروح المقاتل مع فريق العمل في مؤسسات الطيران المختلفة، كنت افكر في الفرق بين وزير وآخر، وير يتعتبر من البنائين الكبار للدولة ، وآخر يهدر الاراضي او يفسد الزراعة، وثالث يسعي لشراء جزيرة في المحيط. وكنت افكر في قيمة هذه التجربة التي تثبت اننا نقدر علي تحقيق ما يبدو انه صعب اذا توفرت القدوة الصحيحة والارادة. من شعر الهايكو الياباني لا اتعلق بشيء في هذا الحياة ولكني ارغب تأمل السماء الي الابد »كينكو - القرن الحادي عشر الميلادي« مرة اخري عام جديد اواه لو انني اليوم مولود جديد »عيسي - القرن الثامن الميلاد« ترجمة الدكتور شاكر المطلق - سوريا