عادت أنوار السينما الباهرة لتضيء من جديد عن طريق لؤلؤة البحر المتوسط بعد أن خفت أنوار التليفزيون .. وتراجع وهج المسلسلات التي مضت بخيرها وشرها «وشرها كان أكثر بكثير من خيرها» وغثها وثمينها «وثمينها كان أقل بكثير من غثها» وعادت الأمور إلي نصابها الصحيح.. وجاء مهرجان الإسكندرية ليضع كلمة ختام علي الشاشة الصغيرة ونقطة بدء مضيئة أمام الشاشة الكبيرة. مهرجان إسكندرية لهذا العام أتي مستنفرا طاقاته كلها من تنظيمية وفنية وإعلامية لكي يتغلب علي جميع السهام المسمومة التي كانت تنال منه طوال السنوات الماضية. المسئولون عن اختيار الأفلام استطاعوا بذكاء ومهارة وفهم أن يحشدوا مجموعة من الأفلام المهمة القادمة من دول المتوسط لتنافس في المسابقة الرسمية .. إلي جانب مجموعة أخري مختارة من روائع الأفلام التي عرضت أو ستعرض علي شاشات العالم لتكون فاتحة لشهية سينمائية نحن نحتاج إليها كثيرا لجذب هذا الجمهور الذي جلس كالمنوم أمام شاشاته الصغيرة يتابع أعمالا اتصف اكثرها بالتفاهة وضعف المستوي .. والتكرار سواء علي صعيد ابطالها أو صعيد مواضيعها. مرحباً كان المفترض أن يفتتح المهرجان بالفيلم الفرنسي الكبير «مرحبا welcome» للمخرج «فيليب ليوريه» الذي يروي الوضع البائس للمهاجرين غير الشرعيين من خلال وجهة نظر فرنسية هذه المرة ومن خلال قصة حب رومانسية تقطع شغاف القلب بين فتي كروي في العشرين من العمر يحاول الوصول إلي لندن كما يمنع اتمام زواج الفتاة التي يحبها وتحبه .. والتي يرغب اهلها في تزويجها برجل يكبرها سنا لضمان حياتهم جميعا في بلد المنفي هذا الذي اختاروه عوضا عن وطنهم المنكوب . الفيلم رغم واقعيته الشديدة «التي تسببت في تغيير بعض القوانين الفرنسية تجاه هذا الأمر» يتميز بغطاء شعري شفاف.. ومن خلال قصة حب ملتهبة تنتهي بنهاية فاجعة. الفيلم يحقق كل المستويات المطلوبة في فيلم كبير.. موضوع مشتعل، أداء شديد الرقة والتأثير، أجواء مرسومة بعناية مدهشة، جو حيادي وإنساني مؤثر. المسافر وصل وكانت الدلائل كلها تشير إلي أن «مرحبا» سيكون فيلم الافتتاح الذي لن يختلف عليه أحد ولكن ندرة الأفلام المصرية المشاركة في المهرجانات دفعت المسئولين عن البرمجة إلي استبداله في اخر لحظة بفيلم أحمد ماهر الشهير «المسافر» الذي كان اختياره فيلما للافتتاح وسيلة لإقناع أصحابه باشتراكه نظرا للضجة التي سيحققها والاهتمام الذي سيحاط به. اختيار لا يمكن وصفه بالاختيار السيئ.. ففيلم مصري للافتتاح في مهرجان عربي مهما كان شأن الآراء التي تبودلت حوله يبقي خيراً من أي فيلم أجنبي مهما كانت قوته وطبيعته، خصوصا بالظروف التي تمر بها السينما المصرية اليوم. إلي جانب «مرحبا» هناك أكثر من فيلم يتكلم عن الهجرة غير الشرعية .. ومصير المهاجرين التعس والأحوال المتردية التي دفعتهم إلي المخاطرة بحياتهم وبكل ما يملكون من ادخار في سبيل حلم قد لا يتحقق .. ووهم يخيم بظله الكئيب علي مستقبلهم كله. هناك «حراقة» الجزائري وهو الاسم الشعبي الذي تطلقه الجزائر .. علي هؤلاء المهاجرين الذين يغامرون بأرواحهم .. ويروي رحلة مشئومة تضم عشرة أفراد في قارب .. بينهم رجل شرطي فاسد وامرأة متمردة علي شرطها الاجتماعي والديني والجنسي .. وقررت مصاحبة «حبيبها» في هذه الرحلة المشئومة.. الفيلم الذي اخرجه المخرج الكبير «مرزاق علواش» يغوص بعيدا في أغوار المجتمع الجزائري ويكشف زوايا كثيرة منه اعتاد الإعلام هناك أن يغلفها بالظلام. حراقة البندقية «حراقة» عرض في مهرجان البندقية العام الفائت وسبب جدلا واسعا لا شك بسبب الفيلم المغربي «المنسيون» للمخرج «حسن بن جلون» والذي يروي علي طريقة حسن الإمام وأسلوبه .. قدر شاب وفتاة ارتبطا بوثيقة حب في إحدي القري المغاربية .. الفتي ينجح في السفر إلي أوروبا خلسة، بينما تجبر الفتاة علي الزواج بغيره الذي يكتشف في ليلة الزفاف عدم عذريتها مما يضطرها إلي الهرب من غضب أهل القرية .. حيث تخدعها إحدي عصابات الرقيق الأبيض ويوقعونها في شباكهم بحجة تسفيرها إلي أوروبا للحاق بخطيبها الهارب وهناك تجد نفسها في بيت للدعارة حيث تلتقي بحبيها القديم إثر صدمة قاتلة. رغم الميلودرامية الرهيبة التي تغطي الأحداث ينجح الفيلم في جذب اهتمام المتفرج لبساطته وواقعيته وصدقه مع النفس وأخيرا لتجرؤه علي الخوض في هذا الموضوع المعقد ولو كان ذلك عن طريق الميلودراما. إلي جانب هذين الفيلمين العربيين .. هناك فيلم لبناني ل«ريما الحور» باسم «كل يوم عيد» يروي رحلة قاسية تخوضها نساء بعض المساجين السياسيين للقاء أهلهم وذويهم في معتقل بعيد يصلون إليه بعد أن يتم قصفه من القوات الإسرائيلية. فيلم يفضح صفحة أليمة من صفحات الحرب في لبنان.. ومن خلال وجوه نساء عذبهن الانتظار ولوعة الفراق. أما الفيلم السوري «بوابة الجنة» ل«ماهر كدو» والذي عرض في مهرجان دمشق الأخير .. واثار ردودا متباينة، فهو تحدث أيضا عن حرب لبنان ودور سوريا فيها .. بجرأة وشفافية تثيران الكثير من أسئلة الاستفهام. الإيطاليون قادمون التواجد الأوروبي خلافا للفيلم التونسي البديع.. يتمثل في فيلم إيطالي باسم «المساحة البيضاء» للمخرجة الشابة «فرانشيسكا كونشيني» «وهي بالمناسبة ابنة المخرج الإيطالي الشهير الذي يحمل نفس الاسم، ويروي علاقة أم بمولودها والتي اضطرت أن تضعه وهي في شهرها السادس مما جعله ينمو في حضانة اصطناعية تراقبه فيها هذه الأم من خلال زجاج رقيق وتشهد نموه وتطور علاقتها به بعد أن قطعت أوصال العروق الحمراء والدم الذي كان يربط بينهما وهو في رحمها. فيلم بالغ الإنسانية بالغ التأثير.. يطرح موضوعا لم تعتد السينما قبلا علي معالجته أو التطرق إليه، ويطرق باب القلب بمهارة فنية فائقة. إسبانيا تقدم لوحة سينمائية باسم «امرأة بدون بيانو» لمخرج شاب «كزافيين ريبولو» ويروي خلال ليلة واحدة رحلة امرأة بائسة في شوارع مدريد وحاراتها ومحاولتها لقهر عزلتها.. من خلال لقائها مع نماذج إنسانية متعددة وتنتهي ليلتها الطويلة هذه نهاية محبطة .. رغم الجو القاتم واليأس الذي يخيم عليه.. يتميز الفيلم بنور داخلي مشع وإحساس إنساني متدفق. خطوة نحو الظلام تركيا كعادتها تتابع انتصاراتها السينمائية وتقدم لإسكندرية هذا العام ضمن أفلام كثيرة أخري .. اختارت لجنة الاختيار بينها وفيما تعرضه منها إلي أن استقر بها الحال علي فيلم «خطوة نحو الظلام» لأتيل ايناك لأن موضوعه الحار يتلاءم أكثر مع واقعنا العربي والسياسي .. من خلال رحلة أسرة كردية عراقية .. تضطر للهجرة من بلدها إثر الغزو الأمريكي .. والعقبات التي تصادفها لحين وصولها لبر الأمان. فيلم من واقع الحياة السياسية المعاصرة .. ويؤكد حرص السينما التركية علي مواكبة الأحداث العالمية والمحلية.. والنظر إليها بمنظار فني إنساني مؤثر. كما لا تبتعد السينما البوسنية الشابة عن لمس المواضيع الحارقة التي تمس سكانها ومنطقتها تتقدم في فيلم «علي الطريق» ل«جميلة زيافيك» فيلم شديد الأهمية عن الإسلام في البوسنة.. والصراع بين المتطرفين الوهابيين وبين المسلمين العاديين من خلال قصة حب مؤثرة وشديدة الواقعية .. تاركا النهاية مفتوحة في علاج هذه الأزمة التي تشتد نيرانها التهابا. ولا يبتعد الفيلم الكرواتي «السود» عن أجواء الحرب الدامية فيصور كتيبة عسكرية تتشكل بعد نهاية الحرب وصمت المدافع من أفراد اختلفت طبائعهم وأمزجتهم ومواقفهم وعراكهم مع بعضهم الذي ينتهي بنهايات دموية. ربما يكون الفيلم شديد المحلية بالنسبة لبلد منشأ ولكنه يحمل رسالة تحذير وصرخة انذار قوية لكل هذه الشعوب التي أدمتها الخلافات والمعارك .. نعم أفلام كثيرة تغري المشاهدين برؤيتها لأنها تتغلغل في جسد الواقع وتفقأ بحكمة وفنية بالغة الكثير من الدمامل المليئة بالقبح. أو ليس هذا آخر الأمر .. من أهم واجبات سينمانا المعاصرة أن تجعلنا نفتح العين وأن نراقب بشغف واهتمام كل ما يجري حولنا.