بوفاة المفكرالكويتي أحمد البغدادي خسرالمؤمنون بالتعددية النابذون للأحادية، كاتبًا امتلك شجاعة اقتحام أرض الأصوليين رغم كثرة الألغام بها. وبدأ الهجوم عليه عندما أكد في كتاباته المبكرة أنّ الحرية والتقدم لن يتحققا إلاّ بعلمنة مؤسسات الدولة. أي بفصل الدين عن السياسة. بفصل المقدس عن غيرالمقدس. بفصل الثابت والنهائي عن المتغير واللانهائي. صوّب عليه الأصوليون مدافع التكفير، خاصة بعد أنْ نقد نظام التعليم الكويتي الذي يُقحم الدين حتي في المواد العلمية، لكن التحريض علي قتله لم يجعله يتراجع، وإنما كتب مقاله الشهيرالذي ذكر فيه أسباب سحب ابنه من مدارس الكويت، لأنه يتمني له أنْ يكون فنانًا تشكيليا أوموسيقارًا أوطبيبًا أوعالمًا يُفيد البشرية ولايريد له أنْ يكون ضمن كتائب المتاجرين بالدين في الفضائيات. ولم تكن معركته مع الأصوليين وحدهم، وإنما مع الثقافة العربية السائدة. وهو واحد من تيارالليبرالية قليل العدد عظيم التأثير، أمثال المفكرالسوري صادق جلال العظم والمفكرعزيزالعظمة والمفكراللبناني عادل ضاهر والمفكرالعراقي هادي العلوي والمفكرالسعودي عبدالله القصيمي والمفكرالمصري عبدالهادي عبدالرحمن وأ. محمد سعيد العشماوي والراحل خليل عبدالكريم، وبالطبع جيل الرواد أمثال لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسي وسعاد الرملي إلي آخر قائمة هذا الجيل. اختلاف القراءات في كتابه (أحاديث الدين والدنيا) الصادرعن مؤسسة الانتشارالعربي عام 2005أكد الحقيقة التي يتغافل عنها الأصوليون وهي أنّ بعض الأحكام الدينية توقف العمل بها مثل الرق وملك اليمين. وأشارإلي ما أثبته السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) عن اختلاف القراءات وما أدخله البعض من تعديلات علي بعض الكلمات. وأنّ الخليفة عثمان جمع المسلمين علي مصحف واحد وأحرق بقية المصاحف. وأنّ البخاري أخذ سبعة آلاف حديث من أصل سبعمائة ألف. لذلك أصبح من لايصلي كافرًا استشهادًا بحديث، في حين أنّ القرآن الذي هوالأصل ومبتدأ الوحي لم يقل بذلك. ومع ملاحظة أنّ الأحاديث كتبتْ بعد أكثرمن مائتي عام من زمن الرسول الكريم. وعلي المفكرأنْ يسأل عن مدي صحة الحديث المنسوب إلي الرسول (يقطع الصلاة الكلب والحماروالمرأة) الوارد في صحيح البخاري وكذلك حديث (ما أفلح قوم قط ولوا أمرهم امرأة). مايُميزالراحل أحمد البغدادي رفضه للتزويرأوحتي التزويق (=التجميل) فرغم أنه كويتي الجنسية فهو يري أنّ تخلف العرب (الثقافي والمادي) وثيق الصلة بالموروث العربي، وعلي سبيل المثال فإنّ مايفعله الحكام العرب في القرن الحادي والعشرين هوماكان يفعله الخلفاء في العصورالوسطي ( فإهدارالمال العام وإطلاق يد الحاكم في إنفاق هذا المال بما يُهدد مبادئ العدالة والمساواة، هوأمرمألوف في التراث العربي الإسلامي علي المستوي السياسي، بسبب خلو هذا التراث من مبدأ الفصل بين السلطات والذي أخذ به الفكرالأوروبي لغل يد الملوك من التصرف في الشأن العام) لذلك تخلو كتب الفقه من الحديث عن مفهوم (الدولة) (والفقهاء الذين حرصوا علي تبيان أدق التفاصيل حول الوضوء لم يبدوا أي اهتمام بالسلطة السياسية. وتخلو كتب الأحكام السلطانية والسياسية من أي تأصيل فكري حول كيفية نشأة السلطة ومن ثم الدولة علي غرارالفكرالأوروبي. كما أنّ اللغة العربية تخلو من المعني الاصطلاحي للدولة) (ص 123) وعن المواطنة ذكر(لايرد في دساتيرالأنظمة العربية أي ضمان لحرية الأديان ويقتصرالأمر علي حرية العقيدة التي تظل حبيسة الصدرمن دون الممارسة الخارجية خوفًا من محددات النص الديني، في حين أنّ حرية الأديان حق أصيل من حقوق الإنسان. وبسبب ترسخ مبدأ المواطنة ماعاد أحد يهتم بديانة أحد، وبلغ الأمرمداه في إلغاء شرط الديانة من تولي المناصب العامة في الدولة القومية حتي لوكان دينها الإسلام) إنّ الدولة القومية رسّختْ فكرة المواطنة (وألغتْ التمايز بين المواطنين بسبب الدين فكان من الطبيعي أنْ يزول مصطلح (أهل الكتاب) لعدم ملاءمته للواقع الاجتماعي والسياسي الحديث حيث أصبح الجميع سواسية أمام القانون). ولم يُخالف ضميره العلمي حين كتب (إنّ الحياة المرفهة التي عاشتها النخب في العصور الإسلامية، ماكان لها أنْ تتم لولا الاستغلال الفاضح للأعراق الأخري غيرالعربية التي تمت مصادرة حقوقها الإنسانية كرقيق، فالعرب كانت تتعامل مع فكرة الغزو كمؤسسة مالية واجتماعية توفرالرقيق للعمل اليدوي فيما هم ينصرفون إلي ممارسة التجارة واللهو، كما يوفر الغزو سبي النساء للمتع الجنسية بشكل واضح وصريح وقاطع. وأنه لولا الغزو ومشروعيته لما توفرالمال بين المسلمين) وأنّ الجماعات الإسلامية المعاصرة يستندون إلي حديث "من قتل قتيلا فله سلبه" وهذا في الغزو يدل دلالة قاطعة علي أنّ الغزو كان المورد الاقتصادي الوحيد. وبتعبير آخر لم يكن المجتمع الصحراوي منتجًا للسلع ولايزال. ومجتمع لاينتج لايمكن أنْ يكون فيه اقتصاد حقيقي بالمفهوم المعاصر) (ص 152،153) وإذا كان الخليفة عمربن الخطاب أوقف بعض النصوص مثل المؤلفة قلوبهم فإنه أسس قاعدة (إذا اتسع الواقع ضاق النص) ولذا فإنّ (الدنيا أوالواقع اليوم واقع مفارق للنص مهما حاولنا إيجاد الأعذار، فاتساع الدنيا الجديدة أكبر بكثيرمن حجم النص الذي تحدّدتْ أحكامه ب(دنيا) المدينةالمنورة وهي دنيا ضيقة لا يتوافر فيها تراث حضاري كما هي الحال في مصر والعراق والشام. ومع انعدام التراث الحضاري لم تشهد الجزيرة العربية أية نهضة حضارية خاصة أنّ العرب أمة أمية. إنّ الحضارة ترتبط بالدنيا لابالدين ومن هنا خطأ مقولة (الحضارة الإسلامية) كما أنّ اللغة العربية والدين الإسلامي يخلوان من أي تعريف لغوي أواصطلاحي للحضارة، لأنّ التراث التاريخي والفلسفي والعلمي لم يقم علي النص الديني. هذه الثقافة الدنيوية ليست مستمدة من الدين وإنما من المؤثرات الثقافية للبلاد التي تم غزوها باسم الإسلام) (من 158- 162). المتاجرون بالدين ومن بين أسباب غضب الأصوليين عليه موقفه من المتاجرين بالدين حيث ذكر (لقد أصبح الدين اليوم مجالا للاسترزاق. ورجل الدين اليوم دنيوي بكل معني الكلمة. رجل الدين خلقه الواقع لا النص الديني. وهل قضي النص الديني علي الفقركما يدّعي د. يوسف القرضاوي، في مجتمع منقسم اجتماعيًا إلي طبقتين : الأحرار والعبيد، حيث تمتلك الطبقة الأولي كل شيء ولاتمتلك الثانية إلاّ عبوديتها) (ص 181) أما القضاء الحقيقي علي الفقر فقد تم بوسائل بشرية100% (التوزيع العادل للثروة، توفير فرص عمل) أي الوسائل الاقتصادية الحديثة وليس فرض الزكاة والصدقات التي لايمكن أنْ تفي باحتياجات المجتمعات المعاصرة. مأزق حضاري وعن دورأمريكا في دعم الأصولية ذكر أنها هي والسعودية شجعتا علي مصطلح الجهاد، دافعة بالشباب نحو أفغانستان لإذلال الجيش السوفييتي بالسلاح الأمريكي والمال السعودي، حتي تجارة المخدرات كانت مقبولة ومسكوتًا عنها. وتدورالدائرة فإذا بمنشورات الأصوليين، سواء حين الاعتداء علي القوات الأمريكية أوالمؤسسات السعودية أوحين يقومون بذبح إحدي الرهائن، دائمًا يفتتحون منشوراتهم بآية قرآنية ويختتمونها بآية أخري من آيات القتال، وهي مشاهد تؤكد للغرب أنّ الدين الإسلامي يدعو للعنف، لذا يجب تفعيل باب أسباب النزول والتحفظ علي قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب) لأنّ ذلك سيؤدي إلي كارثة بالإسلام والمسلمين (من ص 202- 205) وفي فصل مهم عقد مقارنة بين مواد حقوق الإنسان العالمي ودساتيرالدول العربية المخالفة لهذه الحقوق بسبب التفرقة بين المواطنين علي أساس الجنس (ذكر وأنثي) والدين (مسلم وغيرمسلم) وأنه إذا كانت دولة عربية ترفض بناء كنيسة علي أراضيها، فهي في نفس الوقت تبني آلاف المساجد في البلاد ذات الديانة المسيحية. ويري أنّ خروج العرب من مأزقهم الحضاري لن يكون إلاّ بتحويل (النظام السياسي العربي من العلمانية الجزئية التي يعيشها إلي العلمانية الكاملة علي مستوي الدولة، أي تبني سياسة فصل الدين عن الدولة، بوضع حاجز واضح قاطع بين الدين وصناعة القرارالرسمي بأنواعه المختلفة. وهذا هوالأسلوب الوحيد لإنهاء حالة النفاق السياسي الذي تمارسه الأنظمة العربية والإسلامية مع الدين، في حين أنها تمارس الميكافيلية بأبشع صورها. ومن دون أنْ نتجاهل حقيقة التحالف السياسي بين أنظمة سياسية فاقدة للمشروعية الدستورية والجماعات الدينية التي توفرالمشروعية الدينية لأنظمة سياسية مستبدة) (ص 280، 281).