هذا هو التصور الإصلاحي الذي ينتهي إليه جمال البنا، وهو (كما نري) قريب في كثير من بنوده إلي تصور كثير من أهل الفكر المدني الداعين إلي دولة عصرية ديمقراطية مدنية حديثة. الشيخ جمال البنا مفكر إسلامي مستنير، وله عديد من الآراء والمواقف المعتدلة، التي كسب بها تقدير الحياة الفكرية المصرية والعربية، وإن كان قد أثار بها حفيظة التيارات الدينية السلفية والمتطرفة. فالشيخ جمال البنا له موقف عصري من مسألة الختان، ومسألة البنوك.. وله موقف مضيء يناصر حرية الرأي والاعتقاد، فهو لا يكفر أحدًا، انطلاقًا من إيمانه بالمبدأ الإسلامي "من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، وعملاً بالمبدأ القرآني "جادلهم بالتي هي أحسن"، وثقة في أن الله هو الذي سيحاسب الجميع. وكانت أبرز مواقف الشيخ جمال البنا هو إعلانه أن "الإسلام دين وأمة وليس دينًا ودولة"، وله كتاب بهذا العنوان، بل إنه يري أن دخول السلطة علي الدين تفسده، وتحوّله من دعوة للهدي والرشاد، إلي ملك عضوض وسطوة وهيمنة. وللشيخ جمال البنا آراء متقدمة أثارت عليه ثائرة المتشددين والسلفيين مثل رأيه الإيجابي في إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وهو الأمر الذي يرفضه المتشددون. وكذلك رأيه القائل بأن المرجع الإسلامي المعتمد الوحيد هو القرآن وسنة النبي الكريم، وبذلك أخرج من المرجعية المعتمدة: المشكوك فيه والضعيف والموضوع من الحديث النبوي الشريف، وأخرج اجتهادات الفقهاء ورجال الدين من المرجعية المعتمدة. في هذه المسألة اقترب الشيخ جمال البنا كثيرًا من موقف المفكرين العقلانيين والمدنيين الذين يفرقون بين الدين وبين الفكر الديني. الدين (الذي يتجسد في القرآن) مقدس ثابت سماوي، أما الفكر الديني (تفسير الفقهاء وتأويلهم للقرآن) فهو بشري متغير أرضي. وعلي الرغم من أن الشيخ جمال البنا هو الشقيق الأصغر للشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، فإنه لم يعرف عنه انضمامه لجماعة "الإخوان المسلمين"، بل إنه يخالفهم في كثير من القضايا، وينتقدهم في مواقف عديدة. ولعل شعار جمال البنا "الإسلام دين وأمة" الذي يناقض شعار "الإخوان المسلمين" "الإسلام دين ودولة"، بما ينطوي عليه من سعي "الإخوان المسلمين" إلي السلطة، لعل هذا الخلاف هو أبرز ما بين الإسلام وبين "الإخوان المسلمين". فشعار "الإسلام دين وأمة" يعني أن رجال الدين "دعاة لا قضاة"، كما كرر جمال البنا كثيرًا، بينما شعار "الإسلام دين ودولة" يعني أن رجال الدين "دعاة وقضاة وحكام وأهل سلطة". والشيخ جمال البنا (الذي يصل هذا الشهر عامه التسعين، أمد الله في عمره) لا يناقض بفكره الإسلامي المستنير الجماعات الدينية المتشددة المتطرفة فحسب، بل هو يناقض بفكره المستنير كذلك المؤسسات الدينية الرسمية (كالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية فيه، ودار الإفتاء) حيث يري أن هذه المؤسسات الدينية الرسمية وكثيرًا ما تتطابق مع التيارات المتشددة، وكثيرًا ما تميل إلي تبرير قرارات السلطة السياسية تبريرًا دينيا يعطي هذه القرارات الغطاء الشرعي". والشيخ جمال البنا مؤسسة فكرية مستقلة وحده. فقد أنشأ منذ بدايته دار نشر خاصة تنشر كتبه التي وصلت إلي مائة كتاب، صدرت كلها عن هذه الدار المستقلة الخاصة، إلا قليلاً. من هذه الكتب: "جواز إمامة المرأة للرجل، الإسلام والعقلانية، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، حرية الاعتقاد في الإسلام، مسئولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث، هل يمكن تطبيق الشريعة، تقييد دعوي حدّ الردة. وكتاب "تجديد الإسلام: إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية"، هو أحدث ما صدر للشيخ جمال البنا (مواليد 1920) عن دار "العين" بالقاهرة. والكتاب يتكوّن من مقدمة وبابين كبيرين. في المقدمة "الأهمية القصوي لتجديد الإسلام" يشير الكاتب إلي ضرورة وجود "فقه جديد"، وهو ما كان عالجه في كتابه السابق "نحو فقه جديد"، موضحًا أن "الإصلاح الديني" يسبق "الإصلاح السياسي". ويعرض الباب الأول "حركات التجديد في الإسلام" موضحًا لماذا تعثرت جهود التجديد في العصر الحديث. ويعرض الباب الثاني "دعوة الإحياء الإسلامي تعيد تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية"، مؤكدًا أن منطلق إعادة التأسيس هو المرجعيات الثلاث: القرآن، السنة، الحكمة أو العقل. وهو بذلك يختلف عن قول الأسلاف المؤسسين لمنظومة المعرفة الإسلامية أن أصول الفقه أربعة هي: القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد. وواضح أن اتخاذ جمال البنا الحكمة أو العقل منطلقًا أساسيا في تأسيس المعرفة الإسلامية يقربه من ابن رشد ومن محمد عبده، لاسيما في التأكيد علي أن "الحكمة" تضم الثقافات والمعارف في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية، والانفتاح التام علي العالم واقتباس كل ما يعد صالحًا فيه دون غضاضة أو حساسية أو شعور باغتراب. ويختم جمال البنا مشروعه بتوضيح معالم المجتمع في ضوء تأسيسه النظري المعرفي الجديد. نلخص هذه المعالم في: محور المجتمع هو الإنسان حرية الفكر والتعبير والمعتقد تحسين الظروف المادية معيار الوظائف هو الكفاءة وليس الجنس وضع دستور مماثل لدستور 1923 إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات الدولة دولة مدنية مهمتها الاستجابة لإرادة الشعب نظام الحكم ديمقراطي يتضمن حرية تكوين الأحزاب يجوز لكل "مصري" الترشح لرئاسة الدولة النظام الاقتصادي هو حرية العمل وحرية التملك وحرية التنافس، علي أن تتدخل الدولة لضبط التنافس لجعله في صالح كل المجتمع. هذا هو التصور الإصلاحي الذي ينتهي إليه جمال البنا، وهو (كما نري) قريب في كثير من بنوده إلي تصور كثير من أهل الفكر المدني الداعين إلي دولة عصرية ديمقراطية مدنية حديثة. "تجديد الإسلام" كتاب مستقل شجاع لكاتب مستقل شجاع، يعجب المرء أن يصدر عن مفكر إسلامي. لكن لي علي هذا الكتاب المستقل الشجاع الملاحظات الأربع التالية: الأولي: تعجبت أن يدرج الشيخ جمال البنا، ضمن المجددين في الإسلام، كلاً من عثمان بن عفان، الشافعي، ابن تيمية، ابن قيم الجوزية، ابن حزم، محمد بن عبدالوهاب، حسن البنا، أبو الأعلي المودودي، رشيد رضا، وسيد قطب، حسن الترابي، محمد الغزالي. كيف يدرجهم ضمن المجددين؟ وهو يعلم أن ابن تيمية أحل دم المخالف في الرأي، وأفتي بأن ستين عامًا تحت حاكم جائر خير من يوم بدون صلاة. وأن ابن حزم كان ضد الآية التي تقول "لا إكراه في الدين". وأن محمد بن عبدالوهاب هو منبع السلفية التي اجتاحت عالمنا العربي، وأن المودودي هو مؤسس شعار "الحاكمية لله"، وأن سيد قطب هو صاحب نظرية "جاهلية المجتمع وكفره"، وأن محمد الغزالي هو صاحب فتوي كُفر رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وفتوي ردة فرج فودة. وأن حسن الترابي هو أسّ مجازر السودان. الثانية: في رصده لعوامل تعثر التجديد في العصر الحديث يذكر كاتبنا: "هيمنة السلفية"، و"عجز النخبة"، و"التيارات المضادة" الإرهابية العنيفة، وكاتبنا يتغافل عن عامل رئيسي في تعثر التجديد الفكري الإسلامي، ألا وهو "السلطات السياسية المستبدة". فالنظام السياسي المستبد هو الذي يربي ويدعم هيمنة السلفية الدينية لأنها تخدم استبداده وهيمنته، مما يترتب عليه عجز النخبة بسبب قمعها المستمر وإقصائها وعقابها، وكل ذلك ينتج (مع الفقر وانسداد الأفق بفعل الاستبداد). تيارات التطرف والعنف. الثالثة: اعتباره أن حسن البنا و"الإخوان المسلمين" تيار معتدل، مع أنه التيار الذي يري أن الإسلام "دين ودولة، مصحف وسيف"، ومن ثم هو صاحب الدعوة إلي "الدولة الدينية" التي تصبح المرأة وغير المسلم فيها مواطنين من الدرجة الثانية، وتصبح الديمقراطية والفنون رجسًا من عمل الشيطان الغربي. الرابعة: في تصوره الرحب للمجتمع الجديد، وبعد تأكيده علي حرية الرأي والاعتقاد والفكر، يتحفظ كاتبنا الإسلامي المستنير بقوله: "ولكن عندما يساء استغلال هذه الحرية يجوز للمجلس التشريعي أن يسن قوانين تحد من ذلك، علي أن يكون ذلك عند الضرورة القصوي". وهذا التحفظ هو نفسه التحفظ الموجود اليا في دساتير وقوانين النظم المستبدة الراهنة. فالنظام هو الذي سيحدد "إساءة استعمال الحرية"، وهو الذي سيحدد "الضرورة القصوي" للتدخل، وهو ما ينتهي إلي انتفاء الحرية وتفريغها من مضمونها الحقيقي. هذا، إذن، استدراك يضعه المستبدون علي بند الحرية لتعطيلها ونفيها في الواقع العملي. علي الرغم من هذه الملاحظات، فلا ريب أن "تجديد الإسلام" كتاب شجاع لكاتب شجاع: مفكر مسلم، لكنه يؤمن أن الإسلام دعوة وليس سلطة، ويؤمن بفصل الدين عن الدولة، ويؤمن بالدولة المدنية التي تقوم علي الديمقراطية والمساواة والمواطنة والعدل، ويؤمن أن الإنسان هو غاية كل دين، وأن مصلحة البشر هي شرع الله، وأنه ليس لمسلم علي مسلم حساب سوي الموعظة الحسنة.