شهد السودان مؤخراً تزايد وتيرة التوتر بين الشمال والجنوب إثر مطالبة عضوين من أعضاء الجنوب تنظيم استفتاء الجنوب المقرر عقده في يناير المقبل بتأجيل الاستفتاء نظراً لعدم توفر الوقت الكافي لاستكمال الإجراءات التنظيمية. وبرر طارق عثمان الطاهر مقرر مفوضية استفتاء جنوب السودان هذا المطلب قائلاً: "نريد تنبيه الشريكين إلي أنه من الناحية الموضوعية ووفقا لتقديرات الجدول الزمني الذي حدده قانون الاستفتاء فإن الفترة المتبقية لا تكتفي للقيام بالاستفتاء. نحن في المفوضية سنبدأ في اجراءات قيام الاستفتاء ولكننا لا بد ان ننبه لهذا الأمر وخاصة أن الاستفتاء ليس اجراءات قانونية فقط وإنما هو سياسي كذلك، علي ان القانون أعطي المفوضية حق التأجيل بالتشاور مع الشريكين". وكان البرلمان السوداني قد صادق في الثامن و العشرين من يونيو الماضي علي تشكيل المفوضية المكونة من تسعة أشخاص مستقلين برئاسة المحامي محمد إبراهيم الخليل الذي شغل منصب وزير الخارجية في الستينات ومنصب رئيس الجمعية الوطنية بين عامي 1986 و 1988 وتم تكليف المفوضية بتنظيم تسجيل الناخبين علي لوائح انتخابية واعداد التنظيمات اللوجستية الخاصة باجراء الاستفتاء الذي يعد ضمن مراحل تطبيق بنود اتفاق السلام الشامل الموقع بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005، والذي أنهي حرباً أهلية استمرت منذ عام 1994 بين الشمال و الجنوب راح ضحيتها حوالي مليوني شخص وتسببت في نزوح ما يزيد عن 4 ملايين مواطن عن بيوتهم. وواجهت الحركة الشعبية لتحرير السودان تصريحات مقرر مفوضية استفتاء الجنوب باستهجان شديد وحذرت من اعتبار أي تأجيل بمثابة خرق لاتفاق السلام سيكون من شأنه أن تأخذ الحركة علي عاتقها حق تقرير مصير الجنوب. ووصف باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، المفوضية بأنها مشلولة و لا تقوم بعملها المكلفة به بما يتهدد مستقبل السلام في البلاد. و أضاف أموم "إذا لم تتمكن مفوضية الاستفتاء من تسوية المشاكل التي تواجهها في غضون أسبوعين فسوف يقتل الاستفتاء وستكون المفوضية مسئولة" مشيراً إلي مبادرات الشركاء الدوليين لمساعدة المفوضية لإجراء الاستفتاء وهو ما تتجاهله المفوضية. وينص قانون الاستفتاء علي وجوب نشر اللائحة النهائية للأشخاص الذين يحق لهم الاقتراع قبل ثلاثة أشهر من الاستفتاء، أي في التاسع من أكتوبر المقبل وذلك في الوقت الذي لم تبدأ فيه المفوضية بعد في تسجيل الناخبين. ورداً علي هذا الاتهام، أشار محمد إبراهيم الخليل إلي أن المفوضية قدمت مذكرة إلي الرئاسة طالبت فيها بمزيد من الدعم لتمكين المفوضية من أداء مهماتها، وأكد اكتمال أعمال المفوضية في ولايات الجنوب بنسبة 80 في المائة، كما أشار إلي أن هناك اتفاقات وقعت مع الأممالمتحدة والمعونة الأمريكية لتقديم الدعم الفني واللوجستي للاستفتاء. مفاوضات شريكي الحكم من ناحية أخري، استمر شريكا الحكم في السودان في مفاوضاتهما بشأن القضايا الخلافية بينهما و من بينها تقاسم العائدات النفطية لضمان الانتقال السلمي للسلطة في فترة ما بعد الاستفتاء. وكانت المرحلة الأولي من المفاوضات قد جرت في العشرين من يوليو الماضي في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان. كما التقي الطرفان في القاهرة في ورشة عمل تناولت أربعة محاور رئيسية هي المواطنة، الأمن، الاقتصاد، و احترام الالتزامات الدولية. كما بدأت مؤخراً أعمال أربع لجان من شريكي الحكم لمناقشة قضايا فنية مثل الانضمام للمعاهدات الدولية ونوع العملة التي ستستخدم. كما تناقش هذه اللجان أيضاً قضايا مهمة مثل اقتسام النفط ومياه النيل وترسيم الحدود استعداداً لطرحها علي مستوي سياسي أعلي. وقال رئيس اللجنة الدولية المكلفة مراقبة تنفيذ اتفاق السلام ديريك بلمبلي إن العمل علي المستوي السياسي لحل هذه القضايا العالقة أصبح يكتسب أهمية كبري في ظل الظروف الراهنة ومع اقتراب موعد الاستفتاء. المؤتمر الوطني ينفي وعلي الرغم مما أثير حول إرجاء الاستفتاء، أكد حزب المؤتمر الوطني أن عملية الاقتراع ستتم في موعدها وأنه لم يحدث اتفاق بين شريكي الحكم حتي الآن علي تأجيل الاستفتاء. وقال وزير الشباب والرياضة مسئول التعبئة السياسية في الحزب حاج ماجد سوار "من المؤكد أن أي إرجاء يحتاج إلي تعديل الدستور، والاتفاق ينص علي أنه يجب تعيين الأمين العام قبل ستة أشهر من إجراء العملية". وفي الوقت الذي أشار فيه حزب المؤتمر الوطني إلي أن الإرجاء يرجع لتقدير المفوضية، تضاربت أقوال رئيس مفوضية الاستفتاء محمد إبراهيم خليل الذي وصف الإرجاء علي أنه "تقدير سياسي، والمفوضية مهمتها قانونية ودستورية وفق اتفاق السلام والدستور الانتقالي وقانون الاستفتاء". وفي الوقت الذي كثف فيه حزب المؤتمر الوطني جهوده الداعمة للوحدة الطوعية، طرحت الحكومة السودانية استراتيجيتها الجديدة لتحقيق السلام وهي تعتمد علي جهود دعم الأمن، وإعادة التوطين والمصالحة، وتحديد أولويات المرحلة المقبلة، وإنهاء الأزمة قبل نهاية العام. واعتبر نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه الاستراتيجية تجميعاً للجهود من أجل صوغ موقف وطني موحد لإنهاء أزمة دارفور والتفرغ لقضية الاستفتاء علي تقرير مصير الجنوب. وحذر قياديون في حزب المؤتمر الوطني من التأثير السلبي لقضية دارفور في عملية التفاوض علي قضايا ما بعد الاستفتاء خاصة بعد أن ازدادت هجمات متمردي حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد محمد نور علي القوات الحكومية. أزمة دارفور وأعلن الرئيس السوداني عمر البشير عن نواياه لفرض السلام في إقليم دارفور إذا لم تنجح الجولة الحالية من المفاوضات التي تخوضها حكومته مع المتمردين، مؤكداً أن "منبر الدوحة هو الأخير للتفاوض ولن نسمح بتحول أزمة دارفور إلي فلسطين أخري". كما أكد الرئيس السوداني علي تصفية المعارضة التشادية في السودان، وتجريدها من السلاح ذلك في الوقت الذي بدأت فيه المباحثات الرسمية مع الرئيس التشادي إدريس ديبي بخصوص المعارضة التشادية التي دعاها إلي العودة الطوعية إلي تشاد أو البقاء كلاجئين في السودان. عودة التوتر إلي السودان هو بلا شك أمر سيطول في المرحلة المقبلة لا سيما وأن العديد من القضايا الشائكة بين الشمال والجنوب لا تزال قائمة. وتستمر الخلافات علي اجراءات الاستفتاء في ظل الخلاف القائم بين الشمال الداعي لاقتراع كل الجنوبيين وبين الجنوب المصر علي اقتراع الجنوبيين المقيمين في الجنوب فقط.. ووصف غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني هذا المطلب بالتعجيزي، وأضاف "لن يتم أي استفتاء إلا إذا كان شاملا لكل الجنوبيين وأي محاولة ليكون هذا الحق للجنوبيين في الجنوب فقط أو أن يأتي المواطن الجنوبي من الشمال للتسجيل في الجنوب ثم يأتي بعد بضعة أشهر للتصويت تعتبر تعجيزاً واضحاً". وبالإضافة إلي الخلاف السابق، لا يزال هناك خلاف علي قانون الأمن الوطني الذي أجازه مجلس الوزراء ليعطي جهاز الأمن الحق في الاعتقال والمصادرة، وتعتبره الحركة الشعبية انتهاكاً لحقوق الإنسان ومحاولة من الحكومة لشل المعارضة السياسية. مرحلة ما بعد الاستفتاء أعمال المفاوضات بين شريكي الحكم لم تقدم بعد الحلول الجذرية للمسائل الخلافية و تبدو كأنها تنهج نهجاً تسويفياً قد يهدف إلي إعطاء المزيد من الوقت قبل إجراء الاستفتاء بالفعل. هذه المماطلات التي تتهم الحركة الشعبية لتحرير السودان الشمال بافتعالها تبدو كأنها تسير علي وتيرة ما طرحه الرئيس السوداني حول الوحدة الطوعية كأداة لتحقيق السلام في السودان. وفي الوقت الذي تستمر فيه الاتهامات بين شريكي الحكم، بدأ الجنوب يستعد بنشيد وطني جنوبي استعداداً للانفصال. وكانت الفترة السابقة قد شهدت فراغاً سياسياً كبيراً بعد انسحاب المعارضة من جولة الانتخابات التي أجريت في أبريل الماضي والتي وإن كانت أول انتخابات تعددية تشهدها البلاد منذ عام 1986، إلا أنها أسفرت عن فوز البشير بفترة رئاسة جديدة وسط اتهامات المعارضة له باحتكار السلطة و شل الحياة السياسية. الوضع السياسي الداخلي في السودان أحوج ما يكون الآن إلي فتح حوار فعال مع الأطراف المختلفة من المعارضة و من الحركة الشعبية لتحرير السودان ومن متمردي دارفور. قدرة البشير علي الوفاء بشروط اتفاق السلام لابد و أن تمر بمرحلة ايجاد حلول للأمور العالقة والتوصل إلي اتفاق وطني حول مرحلة ما بعد الاستفتاء.