يقتضي المنطق السليم وطبيعة الأشياء أن المتمتع بجنسية بلد ما له الأولوية القصوي علي أرضها وهو ما تعامل علي أساسه المواطن المصري الأمريكي «مصري عربي» في فيلم «عسل إسود» عندما قرر العودة الي بلده مصر بعد عشرين عاما قضاها في أمريكا فترك جواز سفره الأمريكي في أمريكا مكتفيا بجواز سفره المصري ليكتشف بعد سلسلة من المواقف أن المنطق قد لا يتفق مع الواقع في بعض الأحيان علي أرض مصر وأن تمتعه بالجنسية الأمريكية وليس المصرية علي أرض مصر يضمن له حقوقه الطبيعية ، وقد كنت وما زلت أندهش من تلك الحملات التي تؤكد علي حسن معاملة السائحين دعما للسياحة، إذ إنني أري أننا لو تعلمنا حسن المعاملة في المطلق فسوف ينعكس ذلك تلقائيا علي معاملة السائح وإلا أصبح لدينا منهجان في التعامل أحدهما أخلاقي للأجنبي والآخر لا أخلاقي بيننا وهو منطق غير أخلاقي في محتواه ناهيك عن عدم قابليته للتطبيق العملي . وبعد، فقد أدرك المواطن «مصري» أن جواز سفره الأمريكي هو الأنفع له والأجدي علي أرض مصر فقام بإحضاره ليبدأ بعدها في الوقوف علي المشكلات المتجذرة التي يعانيها أبناء الوطن من بطالة شاب تجاوز الثلاثين ومازال يعيش كلاَّ علي والدته الي الآخر الذي تحرمه أزمة السكن من التمتع بعلاقة جنسية سليمة مع زوجته لاضطراره للعيش مع أهل الزوجة في منزل واحد الي مظاهر الفقر والفوضي وتدريجيا يبدأ مصري في اكتشاف صورة قاتمة عن الوطن الذي استقر في وجدانه وعاد اليه مفعما بالحب والشوق والأمل فيتراجع الحب ويخبو الشوق وينحسر الأمل فيقرر يائسا العودة الي امريكا وفي قمة حنقه علي الواقع المصري يواجهه العم هلال بالجانب الاخر من الحقيقة والخافي عن ناظريه وهو القيم المجتمعية التي تحفظ للمجتمع المصري تماسكه فتلك الأم التي تشعر بواجبها نحو ابنها العاطل حتي لو تجاوز الثلاثين وذلك الزوج الصابر المكافح المقاتل برغم كل المنغصات التي تحرمه حتي من الاستمتاع بالجنس مع زوجته ويعلنها العم هلال أن المجتمع المصري له من قيمه الباقية حتي في قمة أزماته والتي ستكسبه تميزا عندما يتجاوز تلك الأزمات ، ويستكمل الفيلم وجهة نظر العم هلال من خلال مجموعة من المشاهد التي تظهر المشاركة والحميمية والدفء بين الجيران في علاقاتهم اليومية وحب الخير والتكافل من خلال موائد الرحمن والمعدن الطيب من خلال سائق الليموزين النصاب الاستغلالي والذي ينقلب في لحظة ما شهما جوادا عرفانا بجميل وفي النهاية يقرر «مصري» العودة الي أمريكا وبينما هو في الطائرة يستدعي في ذهنه كل مظاهر الحب والترابط والتلاحم فيقرر الرجوع الي مصر لينتهي الفيلم . أعجبني الفيلم بلا شك وأثار تفكيري وتساؤلاتي وأهمها: ماالأجدي للوطن والمواطن هل الدفء والترابط والحميمية أم النظام السليم الذي يضمن حقوق المواطن بعدالة تامة والذي يضمن للمواطن حياة كريمة طالما يؤدي ما عليه من واجبات والذي يعلي من قيمة العمل والذي يجعل جل مجهود المواطن موجها للعمل والابداع وليس لمنغصات حياتية ليس أكثرها هم صراع الزحام للوصول الي العمل والعودة منه؟ وهل مائدة الرحمن أفيد للفقير أم تمتعه بكل حقوقه كمواطن؟ وهو ما ورد علي لسان «مصري» في أكثر جمل الفيلم عبقرية عندما سأله ضابط الشرطة عند مطالبته بحقه كمصري عن حيثيته هل هو وكيل نيابة أم صاحب سلطة؟ فأجابه «مصري» (هو أنا لازم أكون مصري وحاجة مش كفاية أكون مصري وبس؟) وأما آن الأوان للمصري أن يحيا الحياة الكريمة مع احتفاظه بقيمه الكريمة أم أن قدره في الكرم الثانية فقط دون الأولي؟ وفي النهاية أود أن أشير إلي أنه قد شارك في الفيلم ثلاثة من الممثلين المصريين المسيحيين والذين يتمتعون بخفة ظل متناهية: ادوارد ويوسف داوود ولطفي لبيب. فخفة الظل المصرية الفطرية والتي تعد أحد أهم شروط الجنسية المصرية تجري في دم الوطن لا تفرق بين مسلم ومسيحي.