أحب هذا الفيلم .. أحبه حتي النخاع.. أحبه في جرأته، في صدقه، في النشوة التي يخلقها في نفوسنا، في طاقة الشجن الكبيرة التي يفتحها في شرايينا في هذه النضارة في الرؤيا وهذا الحنين إلي جزء ما زال ينبض في قلوبنا.. يتطلع إلي الكرامة والحب والحياة الحقة والرغبة بعيش إنساني يجعل الحياة تستحق أن تحيا. محمد أمين كاتبا ومخرجا ليس جديدا علينا .. تعودنا منه دائما أن يدهشنا وأن يصيبنا بهذه الشرارة الكهربائية الحلوة التي تنطلق من أفلامه.. فمنذ فيلمه الأول «فيلم ثقافي» وحتي فيلمه الثاني «ليلة سقوط بغداد» وجدنا أنفسنا أمام عالم خاص به يعرف كيف ينسج خيوطه بمهارة وكيف يخلق شخوصه .. ويحركهم ويضعهم أمامنا.. أجسادا حية تخلتج وتصرخ وتضحك وتدفعنا إلي النظر بجدية إلي أعماق نفوسنا. في هذين الفيلمين ظننا أن «محمد أمين» عن طريق الكوميديا السوداء التي عرف دائما كيف يمزجها بتراچيديا الحياة والشخوص قد أغلق أبواب عالمه .. ووضعنا أمام جمله ومصطلحاته وشاراته كلها وأنه لم يعد له بعد ذلك إلا الدخول مجددا في متاهات هذا العالم الذي رسم حدوده لينوع ويبدع ويختار كما يفعل مؤلف السوناتا الموسيقية عندما يخرج من نسخ اللحن الرئيسي تنويعات جديدة مدهشة. ولكن ها هو «محمد أمين» يفاجئنا مرة أخري .. ويأخذ بيدنا وبأعيننا المبهورة ليقودنا في طريق جديد .. مختلفا تماما عن طريقه الذي عهدناه طريق فرشه هذه المرة بورود عملاقة ذات رائحة عبقة وأحجار صماء تكاد تنطق في صمتها .. وصراخ منبعث من القلب يملأ جوانب هذا الطريق بالاصداء والأنغام والموسيقي. لقد اختار «محمد أمين» هذه المرة أن يكون حادا .. وأن يطرح بجدية جارحة قضية اعتدنا دائما أن نسكت عنها..أو أن نغمض العين عمدا كي لا نواجهها.. مشكلة العنوسة في مجتمع ذكوري يفرض فيه الرجل رؤيته وكلمته وموقفه من الحياة .. دون أن يبالي بهذا «الشريك» الذي خلقه الله معه ودون أن يسأل نفسه مرة واحدة .. هل يشعر هذا المخلوق الذي يعيش أيامه كلها إلي جانبه.. كي يشعر هو .. وهل تتحرك في أعماقه الحاجات نفسها والرغبات منها والتطلعات الإنسانية الحقيقية التي لولاها ما كان الإنسان إنسانا، ولا المجتمع مجتمعا ينبض بالحياة والحركة. رؤية دامعة «محمد أمين» يضعنا هذه المرة .. أمام مجموعة من الشخصيات رجالا ونساء ينسج حولها ومن خلالها أفكاره ورؤيته القاسية الدامعة الحنون عن المجتمع المصري الذي تعيش فيه. ولكن في وسط هذه المجموعة المدهشة التي عرف كيف يختار نماذجها، وكيف يهبها الحياة والتدفق والحيوية .. تطل علينا شخصيتان رئيسيتان هما اللتان يحمل الفيلم اسمهما «حنان» الموظفة المثالية في مكتبة جامعية والتي أشرفت علي الثلاثين من عمرها، وابنة عمها «داليا» الطبيبة المتمرنة في مستشفي كبير .. والتي تجاوزت هي أيضا الثلاثين من العمر. سن اليأس الاثنتان تمران في هذه المرحلة الصعبة من حياة النساء التي لا يعرفها الرجال وهي الاقتراب من سن اليأس .. دون أن تحقق أي منهما حلمها في الزواج أو في الإنجاب أو في الارتباط بأي علاقة يتنفس فيها جسدهما .. كما يحق لأي كائن إنساني أن يتنفس وأن يشعر بإنسانيته. إنهما يحلمان بالزواج .. وبالإنجاب قبل أن يفوت الأوان حتي لو بحثتا في سبيل ذلك إلي كل الوسائل التي قد يخجل المرء من الاعتراف بها.. يقبلن كل الذل .. وكل التضحيات بالكرامة الإنسانية وكل ما يمكنه أن يمس عنفوانهن كنساء في سبيل أن يخرجن من هذا الباب الضيق الذي سيقودهن إلي الحياة الحقة.. قبل أن يوصد في وجوههن إلي الأبد. من خلال هذين النموذجين .. يقدم «محمد أمين» نماذج عديدة لنساء أخريات يرسم صورهن أحيانا بجملة واحدة أو موقف واحد.. كهذه السيدة التي تعيش وحدها «وتلعب دورها كالعادة بإحساس خارق للعادة الممثلة الكبيرة سلوي محمد علي» والتي تعتبر نفسها الصديقة الكبيرة لهاتين البنتين .. تشاركهن أحيانا وجبة عشاء .. وتستمع إليهما وإلي صراخهما المكبوت.. أو تعثر علي احداهن شبه غاضبة علي مقعد في حديقة عامة.. تراقب وحدها الحياة التي تجري أمامها والتي تركتها هي علي الهامش دون أن تذكرها .. بعد أن مر قطار العمر بها في معظم محطاته.. دور شديد الحساسية أدته ممثلة مليئة بالإحساس والتدفق. وإذا أردنا أن نشير إلي التمثيل فعلينا أن نقف أيضا أمام كثير من هامة النسوة اللاتي قدمهن «محمد أمين» وكأنه تحول إلي كاميرا مشعة .. تصور داليا ودواخلهن واحاسيسهن وخيوط تربيتهن النابضة بالدم والدموع. اعترافات هؤلاء النسوة .. في الجلسات النفسية أو اعترافاتهن لبعضهن .. ولا يمكن أن ننسي بسرعة هذا المشهد الذي يختلط فيه الصراخ المكبوت بالضحكة المذبوحة .. والذي تتحدث فيه الصديقات مع احداهن التي تزوجت أخيرا عن ليلة الدخلة.. وماذا يجري فيها وعن الاحساس بفقدان البكارة.. وعن الخوف المختلط باللذة .. مشهد عبقري في حركته وفي تركيبه وفي المدي الإنساني الذي يريد الوصول إليه.. والذي ينبض بالألم الحقيقي المختلط بالشجن، دون أن يسقط لحظة واحدة في ابتذال لفظي .. أو تعبير سوقي. حوار مدهش كثيرة أيضا المشاهد الأخري التي عرف كيف ينسجها «محمد أمين» ببراعة ورهافة وحزن نبيل .. هذا الحوار المدهش الذي يدور علي مساحات كبيرة من الفيلم بين مثقف غاضب وبين الدكتورة الباحثة عن الزواج.. عن طريق الإنترنت حوار يعبر عن غضب الرجل الناضج في عالم يحبه ويكرهه ومن خلال نظام يقسو عليه .. ويحاربه. ربما كانت هذه الحوارات الثنائية من أجمل ما سمعنا من حوار في أفلامنا الأخيرة .. وزادها تألقا .. هذا الصدق في أدائها ونبرة الشجن الأسيانة التي تطلقها. شخصية شقيق الدكتورة الخريج العاطل عن العمل والذي يعيش علي حلم الهجرة ويدفع ثمنا غاليا.. أو هذا الشاب الثائر ابن خالة حنان والذي يشكل وجوده الذكري في البيت عطرا قاتلا تستنشقه حنان .. ويذهب بها وفي أحلامها إلي مناطق بعيدة لا تجرؤ علي تخطيها. شخصية هذا المهندس الذي يبعث الحياة في الصحراء.. والذي تجسدت آمال الدكتورة والباقية .. ليحقق لها أحلامها الأنثوية وطموحها المهني والذي يذهب هو أيضا ضحية لنظام سياسي غاشم لا يرحم إنسانيته ولا طموحه. لم يترك «محمد أمين» جانبا من المجتمع الذي نحيا فيه.. دون أن يشير إليه بكلمة أو همسة أو موقف أو صرخة.. وكل ذلك يتدخل مع بعض في انسجام فني مؤثر.. ويرسم معالم هذا العالم الجديد الذي يفتح لنا المخرج أبوابه الواسعة .. ليحرقنا بنيرانه اللاهية .. ويمتع نظرنا باشجاره الخضراء المليئة بالثمار والعصية علي اللمس. حلم حنان بالإنجاب.. أحلام يقظتها تؤرقها في لحظة غضب علي هؤلاء الذين استطاعوا أن يحبوا وأن يعشقوا وأن يدخلوا هذا العالم الذي حرمت منه. ثورتها علي كرامتها عندما أراد الخطيب الذي عثرت عليه أخيراً أن يتأكد من عذريتها واصطحابها إلي دكتورة نسائية ليكشف عليها ويلعب دوره «إياد نصار» بكفاءة عالية ونجومية حقة ثورة مؤقتة تعود فيها بعد ذلك رغما عنها.. إلي أحضان هذا الخطيب الذي يرفضها رغم ذلك لعدم إيمانه بالمرأة الطاهرة في مجتمع تلوث فيه كل شيء. لا أعرف كيف أعدد المشاهد المؤثرة والدافئة والجامحة والمنطلقة كفرس عربي أصيل جامح تخترق قلوبنا ومشاعرنا.. فهي كثيرة ومتنوعة ومليئة بالإمكانيات والرموز والاسقاطات. قمع السلطة «محمد أمين» لا يخاف.. لذلك فهو يواجه كل شيء، يواجه السلطة والقمع والقهر، ويرينا بشكل لا يحتمل التأويل أن قهر المرأة في مجتمعنا ليس إلا جزءا بسيطا من قهر عام أصاب حياتنا كلها.. وحولنا إلي مجرد آلات مسحوقة اختنق صراخها.. وكادت أن تضيع إنسانيتها.. ثم هذه النهاية الفاجعة .. التي ربما كانت من أجمل النهايات التي شهدتها السينما المصرية في سنواتها الأخيرة.. البنتان تنتظران في قاعة انتظار باردة في مطار القاهرة، مرور رجل أربعيني يعمل في الخليج.. عليه أن يختار دميته القادمة.. من بين خمس نساء، جاءت بهن إحدي قريباته ووضعتهن في فترينة المطار.. لكي يمر مرور الملوك والأباطرة.. ينظر ثم يشير بإصبعه ويختار.. البنتان جالستان .. ظهرهما إلينا وفي اعينهن دمعة ترفض أن تسيل وعلي شفاهما صرخة ترفض أن تنطلق وفي نظرتهما اتهام هائل لا يمكن تجاهله ولا نكرانه. صبا مبارك .. ممثلة أردنية عملاقة تعلن ظهورها الملكي لأول مرة علي شاشاتنا المصرية بعد أن تركت في نفوسنا أثارا لا تمحي من خلال الأدوار المدهشة التي قدمتها علي الشاشة الصغيرة، هذه الممثلة كنز من كنوز المغارات السحرية التي فتح أبوابها المغلقة علي بابا السينما.. «محمد أمين» والتي علينا أن نغترف منها ملء أيدينا ونملأ أعيننا بموهبتها وألقها وحضورها حتي الثمالة. صبا مبارك تملك كل ما تتمناه ممثلة نجمة يحق لها التربع علي عرش السينما .. الجمال والموهبة والذكاء والحضور والشفافية. زينة تؤكد بعد واحد صفر مقدرتها الكبيرة وحضورها الآسر وقوة نظرتها التي تكشف في تعبير واحد كل ما يدور في خلجات نفسها.. إنها تصعد درجات المجد السينمائية بقوة وكالعادة لتحتل مركزها كواحدة من أهم الآمال الشابة في سينمانا المصرية. كثير من مشاهد فيلم «بنتين في مصر» تلح علي وتطاردني وتملأ سمائي وخيالي .. ولها تتجمع لتقول لي في جملة واحدة .. السينما الحقة لا تصور بالكلمات .. السينما هي أن تغرق العين في بحارها.. وأن تترك النفس لأمواجها .. لذلك فإن «بنتين من مصر» فيلم لا يحكي.. بل هو فيلم يري.