سحر النادى تعالوا نعترف إننا جميعا فوجئنا برؤية مبارك في القفص يوم الأربعاء، الثالث من رمضان. فأكثرنا تفاؤلا كان يؤكد أن مبارك على الأقل لن يحضر أولى جلسات محاكمته، وأكثرنا سخرية كان يتخيله يخرج لنا لسانه هو وولديه من خارج الحدود. منا من شكك في قدرة الحكومة واستنكر تباطؤ المجلس العسكري، ومنا من أكد استماتة دول بأكملها لمنع المحاكمة بأي ثمن. ولكن المحاكمة انعقدت بفضل الله، وحضرها مبارك وولديه والعادلي وزبانيته بملابس السجن، داخل قفص الاتهام. لحظة رؤيته داخل القفص انطلق لساني بحمد الله وشكره أن أرانا هذا اليوم ليشفي صدورنا وصدور المكلومين عبر 30 سنة من الفساد والقمع، ومر أمامي شريط سريع لكل لحظة عشناها في التحرير، وكل دعاء وصلاة، تذكرت الهتافات المطالبة بالمحاكمة "للعصابة اللي حاكمة"، والدمية المعلقة في عمود الإنارة فوق رؤوس الناس يشيرون لها ويتضاحكون أن صاحبها سيكون مكانها قريبا. تذكرت العجوز البسيطة الباكية تحكي لنا من فوق المنصة في التحرير كيف أهينت وضربت وشتمت في الشارع من زبانية العادلي، وأهالي الشهداء يهتفون ويشدون من أزرنا. تذكرت يوم الخميس 10 فبراير الذي كان يوما عاصفا ممطرا وكيف لم يمنعنا ذلك من التظاهر، بل زادت أعداد الناس تحت المطر البارد والرياح الشديدة، وانخرطوا في الدعاء الحار وراء شيخ أخذ الميكروفون وهتف أن الدعاء مستجاب وقت المطر، وظل يلح في الرجاء على الله أن يرحم الناس ويخلصنا من الظلم، والناس لا يبالون بملابسهم المبتلة في عز البرد ويرفعون أصواتهم بالابتهال والبكاء كأننا في ليلة القدر، يقولون: "يا رب، يا رب، يا رب" وفجأة جاوبنا رعد شديد يصم الآذان، فاهتزت القلوب وتعالت التكبيرات، وانزاحت الغمة في اليوم التالي مباشرة! تذكرت الدعاة المسلمين والمسيحيين ينصحون أولي الأمر من فوق المنصات أن يعودوا إلى الله ويتذكروا حسابه ويخافوا عقابه لأنه لا يظلم عباده ولا يرضى بالظلم، وأن الظالم "له يوم"، وها قد أتى اليوم الذي كان من شهور قليلة محض خيال جامح. هاهو مبارك في نفس المكان الذي ألقى منه آخر خطاب عام له يوم 23 يناير قبل يومين من الثورة، في أكاديمية كان اسمها يعبر عن دورها في عصره: "أكاديمية مبارك للأمن"، واليوم عادت لاسمها ودورها الطبيعي "أكاديمية الشرطة"، وهاهو يحاكم علنا في إحدى قاعاتها. نظرت إلى الرجل العجوز الذليل خلف القضبان ومعه هامان وجنوده، وقلت مثل ملايين المصريين: "سبحان المعز المذل" أين كان وأين أصبح؟ كان يأمر فيطاع، والآن ينادي القاضي عليه بلقب "المتهم" فيجيبه قائلا "أفندم"! كيف يراه الآن من نافقوه وتزلفوا إليه وتمنوا مكانه بالأمس؟ محاكمة مبارك نقطة تحول في السياسة العربية والشرق أوسطية، فمحاكمة فرعون مصر على يد المصريين مسحت عار محاكمة الرئيس العراقي وشنقه في بلده على يد قوات الاحتلال التي اتخذت فساده ذريعة لاستباحة بلاده وإذلال شعبه. ترى، بماذا شعر الرؤساء العرب في تلك اللحظة؟ ماذا دار بخاطر بشار والقذافي وصالح وبن علي وغيرهم؟ هل ارتجفت قلوبهم مهابة أن يحدث لهم ما حدث لكبيرهم؟ هل كانوا يضحكون ساخرين مستنكرين مستكبرين؟ أم تراهم استبد بهم الغرور ككل الطغاة، فأعماهم أن يتعظوا قبل فوات الأوان، وانطلق كل منهم لزبانيته ليُحكم خطط القتل والتدمير حتى لا تقوم لشعبه قائمة؟ في اليوم التالي لمحاكمة مبارك، انطلقت حناجر أحرار سوريا هاتفة: "يا بشار حضّر حالك، راح تتحاكم مثل مبارك"! يقولون ذلك وهو يدكهم في بيوتهم بالمدافع المضادة للدبابات، يتمسكون بالحياة لأنهم استشعروا أن نصر الله قريب، ومثلهم في ذلك العديد من الشعوب المضطهدة من حولنا. حتى في تل أبيب، خرج الشباب إلى الشوارع ثائرين مطالبين بالعدالة الاجتماعية وبرحيل حكومة نتنياهو الظالمة، ولما أرادوا أن يشتموا رئيس وزرائهم ويهينوه، جمعوا بين اسمه واسم بشار ومبارك في الهتافات، وحذروه أن مصيره سيكون مثل مبارك! الشعوب تتعلم والحكام جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وولوا مدبرين كأن العظة ليست لهم. بشار مستمر في قمعه المتوحش، وعبد الله صالح مازال يهدد ويتوعد ويؤكد عودته لحكم اليمن، فلم تردعه نار الدنيا ولم تذكره بعذاب الآخرة، والقذافي مازال يعيث في ليبيا فسادا ويحلف أن يطهر ليبيا من الليبيين، ونتنياهو ما زال يدك غزة بكرة وعشيا. كلهم يتخيل أنه لا غالب له، فلا يشعر بقرب النهاية، ولا يتعظ مما حدث لجاره الذي كان بالأمس القريب يرفل في نعيم القصور، فانتهى به الأمر مسجى ببدلة السجن ، داخل قفص، يعرض على الناس وعدسات المصورين. علينا أن نتأمل هذه العبر ونتعلم منها، فنحن جيل أقيمت عليه الحجة لأنه رأى الآيات بعينيه، لسنا مثل الأجيال التي سبقتنا التي لم تثر على الظلم ولم تر حساب الظالمين، نحن رأينا ما وعدنا الله يتحقق بحذافيره في شهور قليلة، ورأينا جزاء دعوة المظلوم ونتيجة الفساد والاستبداد من ذل وفضيحة في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك من يفسد منا فذنبه كبير وحسابه مضاعف، وسبحان الله الذي قدر أن تتم هذه المحاكمة في الثالث من رمضان، فيقرأ كل الأئمة ليلتها في صلاة التراويح: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير". صدق الله العظيم. محاكمة مبارك نقطة تحول في السياسة العربية والشرق أوسطية، فمحاكمة فرعون مصر على يد المصريين مسحت عار محاكمة الرئيس العراقي وشنقه في بلده على يد قوات الاحتلال التي اتخذت فساده ذريعة لاستباحة بلاده وإذلال شعبه. إنها نقطة اللاعودة لشعوب المنطقة التي أفاقت من تأليه الحكام وحطمت حاجز الخوف من القمع، كما أن هذه المحاكمة التاريخية تفتح الباب لحكام شرفاء ستأتي بهم الثورات العربية للحكم بالانتخاب النزيه، قريبا إن شاء الله، و رغم أنف المتربصين. فكل مستبد يعرف الآن مصيره لو سولت له نفسه التلاعب بمقدراتنا أو نهب بلادنا. اليوم نصر لمصر، و عزة للثوار، و مجد للشهداء، ولا نامت أعين الرؤساء!