محمد البعلي: فيما تعاني الحكومة المصرية من أزمة سيولة مزمنة تحلها موسميا عبر القروض والمساعدات فإن مئات الملايين من الدولارات (وربما المليارات) التي يشتبه في أنها مسروقة من الشعب المصري ترقد في بنوك أوروبا بانتظار حسم مصيرها. ومنذ الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك مطلع 2011 سارعت دول أوروبية إلى فتح ملفات أمواله وأموال رجال نظامه المودعة في بنوكها ومدى ارتباطها باتهامات الفساد التي تلاحق فترة حكمه التي امتدت ثلاثين عاما. وقامت الحكومة السويسرة في فبراير 2011 بتجميد أموال مودعة في بنوكها باسم مبارك وعدد من أفراد أسرته ورجال نظامه ووسعت لاحقا هذا التجميد ليشمل أموال نحو 31 شخصية بقيمة إجمالية تبلغ 780 مليون دولار تقريبا. وبعد أكثر من عامين من قرار التجميد مازلت هذه الأموال بعيدة عن أيدي الحكومة المصرية بسبب عدم قدرة النظام القضائي المصري على ربطها بقضايا فساد محددة بحسب مسؤولين سويسريين، وبسبب عدم تقديم السلطات السويسرية لمعلومات تسمح بملاحقة مودعي هذه الأموال في مصر بحسب قانونيين مصريين. وعلى مدي الأسبوع الماضي ناقش عدد من المسؤولين والخبراء السويسريين مع وفد صحفي مصري قضية الأموال العائدة للرئيس الأسبق حسني مبارك وعائلته ورجال نظامه والمجمدة في بنوك سويسرا بسبب الاشتباه في كونها منهوبة من الشعب المصري. وأكد المسؤولون السويسريون في أكثر من مناسبة على رغبتهم في التعاون مع مصر بشأن هذه الأموال لكنهم قدموا انتقادات عديدة لمنظومة العدالة والقانون في البلاد. وقالت سوزان كاستر المسؤولة بمكتب العدل الفيدرالي (وزارة العدل السويسرية) إن التغييرات التي لحقت بمكتب النائب العام على مدى عامي 2012 و2013 أثارت الشكوك حول مدى استقلالية سلطات التحقيق المصرية عن السلطة السياسية. وكانت كاستر تشير إلى قيام الرئيس السابق محمد مرسي في نوفمبر 2012 بعزل النائب العام وإصدار إعلان دستوري يحصن قراراته من القضاء وهو ما سبب أزمة سياسية واحتجاجات في مصر حينها. وأشارت أيضا إلى أن قيام أكثر من جهة قضائية بالتحقيق في نفس القضية (النيابة العامة المصرية ونيابة الأموال العامة تحققان بشأن نفس الأشخاص وفي أفعال مترابطة جنائيا في بعض الحالات) يجعل السلطات السويسرية متحيرة بشأن الجهة التي من المفترض أن تتعاون معها فيما يتعلق بالمعلومات وتطور الوضع القانوني لهذا الشخص. وأخيرا أكدت أن عدم استقرار الوضع السياسي والقانوني في مصر يثير مخاوف لدى الجانب السويسري من أن أي معلومات قد تقدم للجانب المصري سوف يتم استغلالها بشكل سياسي ضمن الصراعات الحادة في البلاد، وليس لخدمة القضايا المنظورة أمام القضاء. وتشهد مصر اضطرابات سياسية متواصلة منذ يناير 2011، وأطيح برئيسان للبلاد منذ ذلك الحين، وهما يحاكمان أمام القضاء بتهم مختلفة من بينها الفساد والقتل، كما شهدت البلاد تعديلات دستورية ومحاولات لكتابة دستور جديد منذ ذلك الحين، والدستور المصري الجديد الذي كتب العام الماضي معطل حاليا. يعكس حديث كاستر رؤية الجانب السويسري للقضية، وتوافق وجهات نظر رسمية مصرية على هذه الرؤية، فالسفير المصري في برن -العاصمة الفيدرالية لسويسرا- أقر بأن قطع مزيد من الخطوات باتجاه حل ملف الأموال المصرية المجمدة في سويسرا يتطلب استقرار الأوضاع القانونية والسياسية في مصر أولا. ولكن قانوني مصري -فضل عدم ذكر اسمه- انتقد ما أسماه "عدم تعاون سويسرا" مع السلطات القضائية المصرية، وقال "كيف يمكن أن نعد قضية تضخم ثروة ضد مسؤول فاسد إذا لم تكن لدينا بيانات عن ثروته في الخارج!"، وطالب السلطات السويسرية بالإفصاح عن بيانات الأموال المصرية المجمدة لديها. ولكن الواقع يقول أيضا أن وتيرة محاكمات رجال نظام مبارك في مصر متفاوتة، وكثير منهم حصل على البراءة في قضايا فساد، وأغلبهم مطلق السراح حاليا. وقالت جريتا فينر زينكرناجل رئيسة "معهد بازل للحكم الرشيد" -وهي خبيرة في قضايا الأموال المنهوبة من دول العالم الثالث- إنها تعتقد أن السلطات في مصر ستضطر في المستقبل للعمل مع سلطات دول غربية للوصول إلى تسوية مع المتهمين بتهريب هذه الأموال لاقتسام الأموال بينهم وبين الحكومة المصرية. وأضافت أن عدم قدرة السلطات المصرية على إدانة المسؤولين السابقين أولا ثم ربط قضايا الفساد بهذه الأموال بالتحديد -الخطوة الثانية ضرورية بالنسبة للحكومة السويسرية لتأمر البنوك بإعادة هذه الأموال لمصر- سيجعل من التسوية خيارا جيدا. وقالت إنها لاتعتقد أن الحكومة السويسرية ترغب في الاحتفاظ بهذه الأموال على أراضيها إلى الأبد، ولكنها أيضا مقيدة بتقاليد قانونية تجعل من الصعب إعادة هذه الأموال قبل إجراءات طويلة. وقال فالنتين زلويجر المسؤول بالخارجية السويسرية الأسبوع الماضي إن بلاده تعد الآن قانونا لتسهيل رد الأموال إلى الشعوب التي سرقت منها. وأضاف أن هذا القانون يتعلق بالأساس بالحكومات الديكتاتورية التي تطيح بها ثورات شعبية. وأوضح زلويجر أن القانون سيسمح للحكومة السويسرية بملاحقة الأموال الموجودة على أراضيها والتي يشتبه في أنها منهوبة من شعوب العالم الثالث في المحاكم السويسرية، إذا أخفقت سلطات البلاد التي تعرضت للنهب في إثبات أنها أموال فاسدة، على عكس الوضع الحالي الذي يسمح لبلاده فقط بإعادة الأموال التي تثبت محاكم الدول المنهوبة أنها مسروقة منها. وقال زلويجر إن بلاده قامت في حالة متعلقة بقضية فساد تورط فيها مسؤول كازاخستاني، ولكن إدانته في بلاده واجهت صعوبات قانونية، بالتنسيق مع سلطات كازاخستان وتأسيس صندوق لتدعيم التعليم بها أعيدت إليه هذه الأموال التي نهبها هذا المسؤول بدون أن يتم إعادتها إلى الحكومة مباشرة لتفادي مخالفة القوانين السويسرية. وأشار أكثر من مسؤول سويسري إلى القواعد القانونية المعقدة التي ينبغي على الدول المنهوبة المرور عبرها لاستعادة أموالها. وتحدثت الخبيرة السويسرية جريتا فينر زينكرناجل عن تدريبات قدمت على مدى عام لرجال القضاء والنيابة في مصر لتطوير معارفهم ومهاراتهم بهذا الصدد، ولكنها تظل غير متفائلة بشأن إمكانية استعادة الأموال بالطرق القضائية التقليدية. ويقول خبير قانوني مصر "يبدو أن الأموال المصرية مازال أمامها وقت لتقضية في سويسرا قبل أن تصل إلى مكان نهائي ليس من المؤكد انه مصر".