على قرب عامين من نصر أكتوبر تستقبله الحياة في قرية نائية يعزلها النيل ويجعلها آخر بلاد الله؛ تستقبله بفرح غامر أم مصرية لا تكف عن العمل وعن الصلاة وعن مساعدة الآخرين بكل ما تملك وهو كثير جدا، وبصيام ستة أيام من كل عام وفاء لنذر قطعته، زادت بعدها ستة أخرى لكي يهديه الله ويكف عن شقاوته وشيطنته، وربما بصيام أُخر لا يعلم عنها شيئًا؛ وبارتياح أب ربما لأنه جاءه الولد بعد ابنتين عله يرعاهما إن اشتد عوده وأبان عن فضل تربية. سوف يسير الزمن بالفتى فينهي ابتدائيته وقد أتم قراءة كتب مدرستها جميعًا، ويذكر أنه طالما ترك كتب الدراسة، وملأ حقيبته بقصص المكتبة، ويذكر الفتى كيف خبأ تلك القصص في الكتب كي يظن أبوه أنه يذاكر، يدرك في قرارة نفسه أن العقاد وطه حسين والرافعي -الذين أعطاه بائع روبابيكا مجلات فيها مقالاتهم قائلا: خذ، لا يسأل عنها أحد – أولى بكثير من تلك السطور السوداء. في ديسمبر 1987 يلقي كلمة في طابور المدرسة، كان في الصف الأول الإعدادي وقتها، والكلمة عن فضل البنات على البنين، العنوان ضدي وكذا المقدمة التي امتدحت المرأة لينكشف الأمر بعد إنصات الطالبات عن سيل من الذم والسخرية، وقتها شكره مدير المدرسة ثم نظر إليه قائلا: هل تعرف فلسطين؟ هل تعرف أن طفلا مثلك وقف أمام دبابة إسرائيلية؟ آه يا دمي… هل سيستطيع الفتى أن يقف يومًا أمام دبابات تجريف وطنه؟ هل سيصمد؟ وتحت أي راية سيقاتل؟ كان الابتداء هنا مع الشعر المعبر عن حدث سيظل يؤلمه ما عاش، أنشد أستاذ العلوم محمد فتح الله – الذي صار فيما بعد أستاذًا مرموقًا في المركز القومي للامتحانات – قصيدة: يا تلاميذ غزة، ثم حيا العلم والفتى خلفه في هذا اليوم، وأمام العلم من بعد ذلك يرتل: لبيك يا علم الإسلام كلنا نفدي الحمى. تبدأ الثانوية 1990 بحرب العراق وتختتم بزلزال أكتوبر الذي نبأ عن خراب البنية التحتية وسقوط كل الكلام الكبير، وظلت وجوه الوزراء عالقة أمامه وهم يتحدثون عن عنق الزجاجة؛ تختتم الثانوية بذكرى خمسمائة عام على سقوط الأندلس. تبدأ الجامعة باقتحام الحرم الإبراهيمي، وتنتهي بمذبحة الأقصر، تمر به الأحداث كلها وهو على جناح طائره يرقب عالمه وحوله صحبه يتعجبون كيف لابن الفلاح الفقير الذي لا يمتلك لمصاريفه في الكلية طوال الشهر إلا خمسة جنيهات منها أن يقرأ كل هذا الكم ولا أن يصبح صاحب هذا التأثير الذي يجعله يقف أمام أستاذ الاقتصاد ورئيس الجامعة صقر أحمد صقر قائلا: لقد أخطأت في كذا وإني أعارضك في كذا. وما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يبتسم داعيا إياه بابني، ومطالبًا إياه بحوار خاص لكي يستمع إليه ويناقشه؟ كيف صار الفتى رئيسًا للاتحاد في كليته؟ كيق أصدر مجلتها؟ كيف قدر على أن يجعل للأسر الإسلامية الحق في أن تقيم معارضها في الكلية؟ كيف قال لأستاذه وكيل الكلية لشؤون الطلاب: ليست الحرية أن تسفر الفتاة عن وجهها بل أن تفعل كيف وقف في وجه فساد كبارها حتى قال له عميد الكلية دكتور سامي أبو بيه: سأضربك ضربة لا تقوم منها، ثم كيف دعاه هذا الحبر الجليل لمشاهدة فيلم عن جيفارا، وسأله هل تعرف كيف مات جيفارا؟ فرد الفتى: هل تعرف سيدي اسم قاتله؟ سأله أستاذه: هناك من يسرقون ملايين الجنيهات، قكيف تحارب لصا قصاراه أن يسرق عشرة آلاف في العام؟ وكان الرد: سأحاربه لأنه هو من أمامي أما من أعلى منه فليحاربه من هم أمامه أو ينتظرني؟ وهنا ابتسم الصديق قائلا: اسمع يا أحمد، إما تفصل من التربية والتعليم بعد أسبوعين أو تصبح وزيرًا للتعليم. كيف حمل الأيام منذ 1997 م وحتى كتابة هذه السطور؟ كيف قاوم؟ كيف خان؟ كيف خاب وكم من خيبات؟ ثم كيف وصل به الحال إلى هنا، وما أدراك ما هنا… من أنا؟ أعارض نظام مبارك وأكتب مسرحيتي القرار عام 2009 ضد التوريث، أقاتل الإخوان عن وطني … هه .. هل قلت وطني .. نعم قلت وهذا ما أنا عليه. لا يفترق النظامان في كثير للدرجة التي أعتقد أنهما واحد من حيث الآليات والنتائج وإن اختلفت الآليات، ولما كان نظام مبارك في حكم الميت، فيتعين علي أن أتحدث عن معارضت للإخوان وليس من هذه المعارضة تنبع هويتي، وإنما تتجلى، كما يعلن القاضي الحكم ولا ينشئه، فالبريء بريء قبل نطق القاضي. الإخوان ضد الدولة من حيث كونها جماعة تسعى إلى تحقيق عالمية ما، دعا إليها رجل أول دعم تلقاه كان من هيئة قناة السويس، وكان كما تقول الكتب رجلا يتلقى عطفًا ومعونة من السعودية، تدعو إلى عالمية ما عبر خلافة ما بخليفة ما، وأنا ابن حدودي القدرية التي صار علي أن أحافظ على إرثي منذ الفراعنة وحتى أقرب أبأ لا فرق بين منجز الليث ابن سعد وكتابات الفلاح الفصيح وفتاوى الشافعي المصرية وأفكار محمد فكري الجزار وأحلام جمال عبد الناصر واجتهادات محمد عبده، أجل لا فرق على هذه الأرض المصرية؛ فكلها جذور لشجرة مباركة أصلها في الأرض وفرعها في السماء. الإخوان ضد الوطنية المصرية؛ فهم من قالوا: يحيا الملك. في وجه آبائي حين قالوا: يحيا الشعب، وهم من قتلوا المصري محمود فهمي النقراشي وهم من حاولوا اغتيال عبد الناصر، وهم من تركونا نواجه الموت في ميدان التحرير في نوفمبر 2012م، وهم من أعطوا قتلتنا أوسمة ونياشين، وتلك أعراض لمرض أصيل: عداء الدولة والوطنية المصرية. ذلك ما أنا عليه، نعم يا دمي… سيستطيع الفتى أن يقف دوما أمام دبابات تجريف وطنه، سيصمد، وتحت رايتها سيقاتل، نعم، أنا ابن من قال لا، في وجه من زيفوا نعم، أجل أنا ابنها: أنا ابن الوطنية المصرية.