التطور التاريخي والتجارب الأخرى (6-8) في إطار حديثنا عن قانون الأحزاب في مصر، أوضحنا في مقالات سابقة أننا سنعتمد منهجية تاريخية اجتماعية إلى جوار الاهتمام بمقارنة القانون المصري بنظيره في بلدان متنوعة من حيث درجة التطور الديمقراطي، وذلك تأكيدًا على أن مصر لا تستطيع أن تحيا بمعزل عن العصر، وبدأنا بالفعل بعد تحديد هذه المنهجية بشيء من التفصيل، الحديث في المقال الأول عن نشأة الأحزاب في مصر بداية بالثورة العرابية والحزب الوطني القديم ثم تطرقنا إلى ظهور عدد كبير من الأحزاب مع موجة التحديث التي شهدها القرن العشرين، وحاولنا في المقال التالي أن نستكمل الاستعراض التاريخي الاجتماعي لتطور الأحزاب السياسية فتعرضنا لثورة 1919 التي كانت السبب في ظهور أهم موجة حزبية في مصر، ثم تابعنا بعد ذلك التطورات التي انتهت بظهور قانون 40 لسنة 77 والذي يمكننا أن نعتبره ثمرة لموجة النضال الديمقراطي التي بدأت في 1968 عقب هزيمة 67 ووصلت إلى ذروتها في انتفاضة يناير 1977. وقفنا بعد ذلك، وفي المقال الثالث، بشيء من التفصيل عند القانون 40 لسنة 77، فتعرضنا إلى خطوطه الرئيسية من خلال استعراض أبوابه الثلاثة، كما تعرضنا أيضًا إلى الشروط التي تضمنها لتأسيس الأحزاب والقيود التي فرضها على حركتها، وأخيرًا حددنا الأحزاب التي تمت الموافقة عليها وفقًا لهذا القانون، وأخيرًا عرضنا في المقال الأخير، المقال الرابع، الخطوط الرئيسية للقانون الجديد، القانون رقم 12 لسنة 2011 الذي يعتبر ثمرة من ثمرات ثورة 25 يناير، ثم قدمنا في المقال الخامس قراءة نقدية لهذا القانون مبرزين الفروق بينه وبين القانون 40 لسنة 77 وسنحاول في هذا المقال أن نتطرق إلى استعراض سريع لقوانين الأحزاب في بعض الديمقراطيات الناشئة والعريقة. لنبدأ من الديمقراطيات العريقة ونلقى نظرة على دولتين من أعرق الدول الديمقراطية وهما: ألمانياوفرنسا، للتعرف على شروط تأسيس الأحزاب والقضايا التى تشغل بال المُشرع. حسب الدستور الألماني فإن مهمة الأحزاب السياسية هي المساهمة في بناء الوعي السياسي للشعب، وهكذا فإن خوض الانتخابات العامة وتنظيم حملات انتخابية ترقيان إلى مرتبة الواجبات الدستورية، ولهذا السبب تحصل الأحزاب على دعم مادى من الدولة مقابل النفقات التي تتحملها في إطار هذه الحملات الانتخابية.. وحسب الدستور أيضًا فإن تشكيل الأحزاب السياسية يخضع للأسس الديمقراطية ويجب على الأحزاب أن تعترف، أو بالأحرى تؤمن بالدولة الديمقراطية. ولأن تأسيس الأحزاب يتم بالإخطار، فإن الأحزاب التي يشكك في مدى إيمانها بالديمقراطية والنظام الديمقراطى يمكن منعها بعد أن تبدأ نشاطها وتتوفر دلائل على أنها ضد النظام الديمقراطى، وفى هذه الحالة تتقدم الحكومة بطلب للجهات القضائية المختصة لمنع مثل هذه الأحزاب من الوجود، فعندما تتبين الحكومة أن أحد هذه الأحزاب، الذى تم إعلان وجوده أو تأسيسه بمجرد الإخطار، يشكل خطرًا على النظام الديمقراطي وتتشكل لديها القناعة بأن منعه ضروري، يمكنها في هذه الحالة تقديم طلب بحظر هذا الحزب، أما قرار المنع بحد ذاته فهو محصور بالمحكمة الدستورية العليا، وبهذه الطريقة يمكن تفادي خطورة أن تقوم الأحزاب السياسية الحاكمة بمنع أي حزب يعارضها، ويشكل خطرًا سياسيًا منافسًا لها. كانت طلبات حظر الأحزاب في تاريخ ألمانيا قليلة جدًا، وكان من النادر حظر أحدها، فالدستور الألماني يشجع ويدعم الأحزاب، والأحزاب بدورها تمثل في جوهرها التيارات والاتجاهات المختلفة داخل المجتمع، ويترك للأحزاب نفسها، وللعملية الديمقراطية عادة، مهمة تحجيم الأحزاب التى تُثار الشكوك حول مدى إيمانها بالديمقراطية. فى فرنسا مثلما هو الحال فى ألمانيا تساهم الأحزاب السياسية في الانتخابات العامة، بمقتضى المادة الرابعة من الدستور، وهي تساهم في إضفاء الحيوية على الحياة السياسية، وتلعب الأحزاب السياسية دور الوسيط بين الشعب والنظام الحاكم، فهي تقوم بتحديد وبلورة مطالب الشعب واحتياجاته وتصوغها في إطار برنامج سياسى، وهى بذلك تطمح في الوصول إلى السلطة من أجل تطبيق برامجها المعلنة، ومثلما هو الحال فى ألمانيا فإن تمويل الأحزاب يحظى باهتمام مبالغ من المُشرع. وقد تم تنظيم تمويل الأحزاب السياسية ابتداءً من عام 1988 (القانون 88-227 الصادر في 11 مارس 1988) وفقًا لأربعة مبادئ رئيسية تحكم عملية التمويل، أولها: أنه يعتمد بشكل رئيسي على المصادر العامة، والثانى: تدعيم مبدأ شفافية الحسابات المصرفية للأحزاب السياسية، والثالث: منع الهبات المالية من قبل الشركات الخاصة، والرابع: أن المصروفات الخاصة بحملات الأحزاب الانتخابية محددة بسقف معين لا يمكن تخطيه. وفى تفصيل ذلك أن القانون يسمح بالهبات المقدمة من جانب الأفراد فقط، ويمنع القانون 95-65 الصادر في 19 يناير1995 الخاص بتمويل الحياة السياسية الشركات من تمويل الأحزاب السياسية (المادة 16) وكذلك المشاركة في الحملة الانتخابية لصالح أحد أو عدد من المرشحين سواء في شكل هبات مباشرة أو غير مباشرة (المادة 4). من جهة أخرى، منذ إصدار هذا القانون، تعتبر الاشتراكات المالية المقدمة من جانب أعضاء الأحزاب السياسية هبات تحظى بنفس التسهيلات الضريبية للهبات المقدمة لصالح الأعمال ذات النفع العام أو الهيئات التي تعمل في مجال الخدمة العامة. هذا وقد أصبحت المساعدات العامة مصدر التمويل الرئيسي للأحزاب السياسية، وتقضي آلية تمويل الأحزاب السياسية بتقسيم هذه المساعدات العامة إلى جزءين أو مرحلتين بناءً على النسبة التمثيلية لهذه الأحزاب في ضوء نتائج الانتخابات.. في الجزء الأول أو المرحلة الأولى يتم تقديم مساعدات عامة إلى الأحزاب التي كانت قد قدمت مرشحين في عدد مُعين من الدوائر الانتخابية، وبعد أن كانت هذه الدوائر قد تحددت في عام 1990 ب75 دائرة، انخفض عددها إلى 50 دائرة على أقل تقدير بمقتضى القانون الصادر في 20 يناير 1993، أما الجزء الثاني من هذه المساعدات، فهو يتحدد نسبةً إلى عدد البرلمانيين المسجلين رسميًا في الحزب، ولتفادي عدد من التجاوزات، فإن القانون 93-122 الصادر في 29 يناير عام 1993 الخاص بمكافحة الفساد والمتعلق بشفافية الحياة الاقتصادية والإجراءات العامة، ينص على أن هذا الجزء الثاني من المساعدات لا يمكن منحه إلا لصالح التشكيلات السياسية التي قدمت حد أدنى من المرشحين في الانتخابات التشريعية وفازت في هذه الانتخابات باسم هذه الأحزاب. أما القانون الصادر في 19 يناير 1995، فهو يقر مساعدات عامة تقدر بصورة جزافية لصالح الأحزاب التي تظهر على الساحة عقب إجراء الانتخابات التشريعية، ولكي تحظى هذه الأحزاب بهذه المساعدات، فيتعين أن تكون قد حصلت من قبل، على مدى عام كامل، على هبات مالية مقدمة من جانب أفراد يصل عددهم إلى 10 آلاف شخص على أقل تقدير (ومنهم 500 منتخب). وفي المقابل، فإنه يمكن خفض حجم المساعدات العامة في حال عدم احترام الأحزاب السياسية للقانون 2000-493 الصادر في 6 يونيو 2000، الذي يقضي بتمثيل متساوٍ للمرأة والرجل في المهام النيابية والوظائف الانتخابية. وتدعيمًا لمبدأ الشفافية فيما يتعلق بتمويل الأحزاب السياسية، تم إنشاء لجنتين مخصصتين لهذا الغرض: اللجنة الوطنية لمحاسبات الحملة الانتخابية وأشكال التمويل السياسي، بمقتضى القانون الصادر في 15 يناير1990، وتتولى هذه اللجنة مراقبة الحسابات المصرفية للأحزاب السياسية ونشرها في الجريدة الرسمية، ولجنة الشفافية في الحياة السياسية المُشكلة بمقتضى القانون الصادر فى 11 في مارس 1998 وتتحقق هذه اللجنة من حالات عدم الكسب المشروع للنواب بمقتضى وظائفهم. بعد هذه الجولة من القوانين فى ألمانياوفرنسا سنلاحظ بداية أن الأحزاب يتم تأسيسها بمجرد الإخطار، ووفقًا لشرط واحد وحيد هو إيمان هذه الأحزاب بالدستور والنظام الديمقراطى، وأن الدولة فى هذه البلدان الديمقراطية حريصة كل الحرص على دعم الأحزاب، ولذلك فإن القانون ليس مشغولًا بمنعها أو تقييد حركتها أو معاقبة مرتكبيها، وإنما مشغول بالنظر فى كيفية دعمها، ولعل ذلك هو ما دفعنى للتطرق بشيء من التفصيل لتمويل الأحزاب فى فرنسا مثلاً، فالقانون كما رأينا مهموم بدعم الأحزاب و"لذلك" ولا أقول "ولكن"، فهو مهموم بتوصيل هذا الدعم لمستحقيه وبشكل عادل أيضًا.