كنت أستعد لكتابة هذا المقال عندما قرأت العبارة التالية لصديق على ال"فيس بوك، سمعت خطيب مسجد يقول:عارفين ليه عيالكو بيتعفرتوا؟؟ لأن عند الجماع لا تذكرون اسم الله، ولهذا يدخل العفريت الى رحم المرأة وتنجب ابنا معفرت. تأملت كلامه بدهشة وألم..ألهذه الدرجة من التخلف بلغ خطباء المساجد؟ الأولاد في اليابان في منتهى الأدب، رغم أن آباءهم لا يذكرون اسم الله عند الجماع، فلماذا لا تندفع العفاريت الى أرحام اليابانيات؟؟... ارحمنا يارب ابتسمت ثم ضحكت غير مصدق...هذا بالضبط ما كنت أريد أن أكتبه عن فيلم "الفيل الأزرق"!! إنه فيلم يحذر الرجال والنساء من ممارسة الجنس بدون ذكر اسم الله لأن الجن النكَاح يمكن أن يركبهما وينكحهما معا! هذه ليست "نكتة" وليست مبالغة أو تأويل مفرط، ولكنها النتيجة الطبيعية لثقافة تخلط بين الدين والعلم، وبين الجن والجنس، وبين أقراص الهلوسة وتعاويذ الشعوذة. من المؤكد أنك ستعجب بإخراج فيلم "الفيل الأزرق"، التصوير والموسيقى والممثلين والمؤثرات الخاصة وجو التشويق والرعب، ولن تستطيع أثناء مشاهدته أن تمنع نفسك من المقارنة بينه وبين الأفلام الأمريكية جيدة الصنع، وربما يدفعك الاعجاب أيضا إلى القول بأنه فيلم "عالمي" وأنه يستحق الأوسكار وأنه أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية.. إلى آخر هذه الآراء المتسرعة الناتجة عن كمية الأدرينالين الزائدة التي تدفقت في جسدك الكسول وأنت تشاهد الفيلم! ليس لدي مشكلة مع المستوى الفني التقني ل"الفيل الأزرق". ولكن لدي ملحوظات خاصة بنقطتين: الخلط بين الصنعة والفن لدى صناع الفيلم ومعجبيه، والمضمون المشوش والرجعي الذي يطرحه الفيلم، والناتج عن مشاكل عقلية وتقنية صغيرة من النوع الذي يصعب أن يكتشفه الجمهور. لا خلاف على أن "الفيل الأزرق"، مثل فيلمي المخرج مروان حامد السابقين "عمارة يعقوبيان" و"إبراهيم الأبيض"، مصنوع بحرفية سينمائية عالية. هذه الحرفية تخطف العين، خاصة في صناعة سينما تراجعت فيها الحرفية إلى حد مخيف كما هو الحال في مصر. وهذه الحرفية تبهر زائر فن السينما كما تبهر روايات أحمد مراد زوار قراءة الروايات الذين لا يملكون من الخبرة والتدريب ما يمكنهم من التمييز بين الأدب الحقيقي وشبه الأدب...أو بمعنى أصح بين الأدب وبين الحكايات المسلية. يعاني فيلم "الفيل الأزرق"، مثل الرواية المأخوذ عنها، من عيوب خلقية تحول بينه وبين ما نطلق عليه الأفلام الفنية، أولها عدم التجانس بين عناصر وأجزاء ووحدات الفيلم المختلفة. هل نحن أمام عمل يناقش تأثير المرض النفسي وإدمان المخدرات، أم يناقش أفعال الجان في أعضاء الانسان، على رأي عنوان أحد كتب الأرصفة؟ ولو كنا بصدد عمل عن العفاريت التي تدخل الأرحام فما علاقة الطب النفسي وحكايات المدمنين وأقراص الهلوسة وما علاقة الاثنين بمشاكل الزواج بدون حب والحب بدون زواج؟ ولو كنا أمام عمل "فانتازي" يختلط فيه الواقع بالخيال الناجم عن أقراص الهلوسة، فما تبرير مشاهد أخرى "واقعية" التصوير والأداء مثل الحوارات الرومانتيكية بين كريم عبد العزيز ونيللي كريم، والتي تنحو بالفيلم في اتجاه ومزاج مختلف عن بقية أجزائه؟ تسير الرواية والفيلم وفقا لمنطق يؤدي إلى أن يحيى مصاب بالفصام وأن شريف ليس سوى خيال، ولكن لأن المؤلف أعجبته حكاية الوشم. الذي يسكنه الجن في أحد الأفلام، فأضافها على روايته، مثل طبق الكشري بالشاورمة عند "فلفلة"، ومثل أسلوبه الغريب في التشبيهات المضطربة التي تحفل بها روايته. وبدلا من مرض شريف أو يحيى يتبين تدريجيا أن كليهما أسوياء، وأن الجن الشرير – يا حرام- هو السبب في قتل شريف لزوجته بسمة، وقتل يحيى لعشيقته مايا. يستهين البعض، ومنهم نقاد للأسف، بفكرة الأنواع الفنية: الكوميدي، الميلودرامي، التاريخي، الأكشن...إلى آخره، وهذه الاستهانة ناتجة في تصوري عن عقلية "الكشري" التي تحكم حياتنا. يعني الطبيب يمكن أن يكون واعظا يوزع على مرضاه الأدعية الدينية، والداعية يمكن أن يكتب للمؤمنين وصفات طبية، والمدرس يعمل سباكا بعد الظهر، وحشاشا بعد المغرب.. إلخ لماذا صنعت الأنواع الفنية أصلا؟ لتسهل على الفنانين تحقيق التجانس أو الوحدة الموضوعية التي كنا نتعلمها زمان في دروس الشعر والبلاغة. التجانس، أو "الهارموني"، هو أحد الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها العمل الفني. والسينما السائدة، التجارية، تعتمد على الأنواع لتواجه صعوبة تحقيق "الهارموني" التي تواجه عادة الفنانين "النص نص". لذلك اخترعوا الأنواع الموسيقية مثل "الروك" و"الجاز" و"الشعبي". لولا الأنواع لأصبحت الموسيقى فوضى عارمة على أيدي النصابين و"النص.. نص"... وكذلك الأفلام. لنتأمل مثلا اثنين من الأنواع الفرعية لأفلام الرعب: هناك مثلا نوع الرعب الفانتازي، مثل فيلم "راسم الوشم" المقتبس عنه الفكرة الرئيسية في رواية "الفيل الأزرق". في هذا النوع يمكن للعفاريت والجن والكائنات الخرافية والفضائية أن تظهر وتمارس حياتها الطبيعية بسلاسة. الواقع هنا، كما في أحلامنا الليلية، يتم تعليقه كليا. هناك أيضا نوع الرعب السيكولوجي، مثل فيلم "سايكو" للمخرج ألفريد هيتشكوك، والذي تفسر الأشياء في نهايته بطريقة علمية تدحض كل ما هو غير منطقي ومربك للعقل من الأحداث التي مرت بنا. في النوع الأول ستبدو في منتهى السخافة لو سألت صانع العمل إذا ما كان يؤمن فعليا بإمكانية أن يتحول وشم على الجسم إلى عفريت، أو أن بمقدور قميص عليه بعض الأرقام والكتابات أن يكون درعا واقيا ضد الجن، وفي النوع الثاني ستبدو سخيفا بالقدر نفسه لو سألت هيتشكوك أليس من الممكن أن يكون عفريت الست الوالدة هو القاتل الحقيقي للبنات اللواتي يعشقهن ابنها!" في الحالتين يعتمد الفيلمان على اتفاق غير مكتوب مع المشاهد على تصديق فرضية ما. في "راسم الوشم" هي وجود "الجن النكاح"، وفي "سايكو" هي وجود مرض الفصام العقلي الذي اكتشفه علم التحليل النفسي. "تعال بقى" إلى "الفيل الأزرق." في حوار له على موقع "الأهرام" بتاريخ 26 إبريل 2014 يصف أحمد مراد روايته قائلا: "الفيل الأزرق" رواية نفسية في المقام الأول.. حوار مُستفز للقارئ أكشف به الجانب المظلم من نفسياتنا.. حجر يلقى في ماء راكد فيكشف ما تحته، مُجادلة مع شيطاننا الداخلي حين يتحدث.. أو أنفسنا الأكثر شرًا أحيانًا!!" بعدها بسطور، وردا على سؤال يقول: " تتجه الرواية في نهايتها إلى عالم السحر والشعوذة بصورة تتعارض مع الدقة العلمية التي نلاحظها في البداية. ما تعليقك على ذلك؟" يجيب أحمد مراد: "لا تعارض بين السِحر والعِلم. هما عالمان موجودان. خطان متوازيان يتقاطعان أحيانًا عبر التاريخ، ومن الصعوبة الغاء أحدهما على حساب الآخر." الكاتب نفسه يقول الشيء وعكسه. والمشكلة ليست في احتمال وجود السحر والعلم معا بشكل متواز، ولكن في اختلاط الخطين والعالمين داخل عمل واحد وداخل رأس واحد، خاصة إذا كان هذا الرأس، مثل يحيى بطل الرواية والفيلم، غارقا في المخدرات والكحول. نحن هنا أمام حالة من التشوش التام، من حق صاحب العمل أن يعبر عنها بالطبع، ولكن الخطر يبدأ عندما يمتد هذا التشوش من عقل الشخصية إلى عقل كاتبها وإلى بناء الرواية والتأثير النهائي لها على ذهن القارىء والمشاهد. ليست المشكلة في أن "الفيل الأزرق" يضم نساء شهوانيات يركبهن الجن ورجال يرون الغيب تحت تأثير المخدرات. المشكلة في الخلط بين هذا الخيال وبين المعلومات والمصطلحات العلمية التي يتباهى بها المؤلف في كل صفحة، ليلغيها كلها بجرة قلم وقميص مسحور في النهاية. ينتهي "الفيل الأزرق" بالبطل وهو يبتلع قرصا آخر من مخدر "الفيل الأزرق" ليدخل مرة أخرى إلى عالم الغيب حيث تتضح له الحقائق ويرى الماضي والمستقبل وعالم الجن وكل اللي قلبك يحبه. في نهاية "الفيل الأزرق" يخرج المشاهدون من دار العرض وقد زاد رفضهم للعلم والطب النفسي و قوي إيمانهم بوجود الجن النكاح وتعمق خوفهم من الجنس وتمتن ربطهم بين النجاسة والجنون...ولاحظ أن الحروف واحدة في الكلمات الأربعة: جن، جنّ، جنس، نجس. يعني الثقافة نفسها تعاني من هذا الخلط والخطل القادم من العصور الوسطى وما قبلها. منذ السبعينيات بدأ العقل المصري في هجرة بلا عودة من الحداثة والحضارة إلى الرجعية والخرافة. وأذكر جيدا إحدى حلقات برنامج "العلم والإيمان" الذي كان يقدمه الدكتور "مصطفى محمود"، وكان يزعم فيها أن هناك فصا صنوبريا في المخ عندما ننشطه يذهب المرء في رحلة روحية يرى فيها الغيب. وبالرغم من أنني كنت في الإعدادية وقتها إلا أنني أبديت عجبي الشديد من عبثية الفكرة. يبدو أن أقراص "الفيل الأزرق" ما هي إلا اقتباس آخر عن هذه الفكرة العبثية بأن المرض العقلي يجعلنا نرى الغيب!