وسط هذا الكم الهائل من الأعمال التي تتعامل مع المشاهد علي أنه غير مؤهل عقلياً والمبتعدة عن عنصر الإبهار واستخدام أساليب التكنيك المميزة ومحدودة الإنتاج، يجىء فيلم مروان حامد الجديد «الفيل الأزرق» ليؤكد أنه مازال فى الإمكان رؤية إبداع لا يعترف بقوانين السوق التجارية. وإذا كان الفيلم قد أخذ 90٪ من أحداث الرواية باستثناء بعض التعديلات ولكن العمود الفقرى للرواية حاضر في أحداث الفيلم، ففي القصة هناك سرد لتفاصيل مقتل ابنته وزوجته ولكنه في الفيلم اكتفى بمشهد رومانسى بين كريم عبدالعزيز ونيللي كريم وهو يحكي لها قصة موت ابنته، إلي جانب أنه حذف الفصل الأخير من الرواية الذي يظهر فيه الكاتب أحمد مراد أن بطل الرواية «يحيي» يستيقظ بعد عدة سنوات من زواجه من لبني فيكتشف أن جسمه ملىء بنفس الوشم الشيطاني الذي كان مرسوماً علي جسم «شريف» ليترك النهاية مفتوحة لتخمين القارئ، ولكن في الفيلم حسم «مروان حامد» الصراع بالقضاء على هذا الشيطان باستخدام العدد الرقمى لاسم الله «المانع» بعد أن يكون «الفيل الأزرق» قد غاص بك في رحلة في عالم الجريمة والسحر والرعب والمكبوت لتعرف ضعف وجحيم الذات الإنسانية المسكوت عنه من خلال طلاسم السحرة وحبات الهلوسة، خاصة أن مكنون النفس البشرية، لا نعرف عنه شيئاً ونعتقد أننا نسيطر عليها، وأننا أسوياء ونحن عكس ذلك علي طول الخط.. وعامة تلك النوعية من الأفلام لها قواعد ثابتة لا تخرج عن إطارها إلي حد كبير، ومن ثراء الفيل الأزرق هذا الكم الهائل من المعلومات التي تجعلك تفكر مع الفيلم ولا تجعل اعتمادك علي ما هو موجود في السيناريو وهذا ما حدث مع مشهد حلم المأمون، لأنك ستحاول معرفة علاقة الجان بتلك النوعية من العلاقات.. وفي مشهد القمار السبب الذي يقدمه الفيلم كخلفية شارحة لشخصية يحيي ويفسر لك قدرته كقارئ جيد لحركة الجسد تستفيد من تلك المعلومة لفهم الأسباب التي دفعت شريف للجوء ليحيي لإنقاذه إلي جانب تفسير مقدرة «يحيي» علي فهم طبيعة تصرفات المحيطين به. وأعتقد أن لمصممي الملابس والموسيقي التصويرية والديكور والمونتير دور كبير فى نجاح الفيلم فهي عناصر بدون امتلاكها لأدواتها الإبداعية كان سيفقد الفيلم الكثير، وبالأخص في مشهد نيللي كريم داخل بيت الصاوي الذي كان تصويره علي إضاءة موبايل أحد عناصر التشويق، وإن كان مروان حامد مع المونتير امتلكا تلك الأداة بحرفية خاصة في لقطات ظهور الكلب الذي كان عاملاً لنقلك لعالم السحر الأسود لاستيعاب الفكرة مع القدرة المدهشة علي التحكم فينا. ومناقشة طبيعة تكويننا كبشر، يمتزج فينا الخير بالشر والأبحاث التي انتهي إليها الطبيب النفسي يحيي لتبرئة زميله وصديقه المتهم بالقتل وأوصلته إلي أن القاتل ليس سوي الكائن الغيبى (الشيطان أو الجن) المسكون داخل جسد المتهم والذي أتى إليه بعد أن قامت مشعوذة برسم وشم -ما يعرف بالتاتو- لزوجته التي جاءتها تسعي إلي طريق لتحسين علاقتهما الزوجية، إننا بذلك أمام جريمة مركبة المتهم فيها طبيب نفسي، والمقتول زوجته والقاتل الحقيقي شيطان أو جن. من هنا كانت حبكة الرواية بإيقاع خاص قائم علي حبكة البحث عن الجاني وإشاعة الغموض المدروس والعلامات المدسوسة لتفقد حقيقة تائهة، هي حقيقة الجريمة ومن القاتل وكلما تعمقنا في أحداث الفيلم انهالت علي الأفكار السريالية الآتية مما يتعاطاه من حبوب الهلوسة، فينقلك إلي عوالم مختلفة وعنف يزيد حالة الرعب والتساؤلات في نفس الوقت متحركاً في عالم الجريمة وعالم اللامعقول في الوقت ذاتهم. وتتواصل تلك الأحداث علي طول الفيلم ليجعل من الواقع شيئاً مخيفاً، وهذا ما سيؤهلك لدخوله اللامعقول ويدفعك إلي ملاحقة عالم الرعب لتعرف مصائر الشخصيات وسط تفسيرات علمية للأمراض النفسية وأعراضها، وهذا ما يؤكد أن أحمد مراد في الرواية والسيناريو بعد ذلك قد اعتمد على البحث والمعايشة لحالات مرضية بمستشفى العباسية أو غيرها، وهذا ما نراه في مستشفي العباسية في جناح جديد «8 غرب» والمتخصص في الحالات النفسية والقانونية الصعبة والمرتبطة أساساً بالمتهمين بالقتل المحالين من محاميهم علي الفحص الطبي في محاولة منهم لإنقاذهم من الإعدام، ثم يدخل بنا بعد ذلك إلي سراديب السحر الأسود وعلاقة الإنسان بالجان، تلك العلاقة التي تنتهي دائماً بأبشع الجرائم.. وإذا كان هناك من سيربط بين الفيل الأزرق وفيلمى «شفرة دافنشى» و«البريق».. ورواية «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو.. خاصة أن The Shining وهو فيلم رعب نفسي أمريكي من إخراج ستانلي كوبريك مقتبس من رواية الكاتب المشهور ستيفن كينج، ركز علي علاقة شخص بالأشباح التي تسكن أحد الفنادق بفضل شفافيته وموهبة التخاطر لديه، وتستولي الأرواح علي ذهنه وتدفعه تدريجياً نحو الجنون، وبالأخص عند تواصله مع روح الحارس السابق الذي قتل زوجته وابنته.. أما في شفرة دافنشي المأخوذ عن رواية بوليسية خيالية للمؤلف الأمريكي دان براون فتدور الأحداث في متحف اللوفر الشهير عندما يستدعى عالم أمريكي أستاذ في علم الرموز الدينية في جامعة هارفارد إثر جريمة قتل في متحف اللوفر لأحد المقيمين علي المتحف ويكتشف وجود منظمة سرية مقدسة امتد عمرها إلي مئات السنين.. وفى رواية «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو وهي بوليسية تاريخية تتناول علي عدة مستويات من الاغتيالات المتسلسلة إلي علم المنطق والفراسة والفلسفة ذهاباً إلي الجماعات والفرق المسيحية في القرن الرابع عشر الميلادى وصراعاتها وتحالفاتها وأسرارها الغامضة الخفية، وخلف هذه الأحداث كلها يقف المحقق وتلميذه لكشف جرائم ترتكب باسم الدين، من خلال كائنات غريبة ومنحوتات رهيبة، وكلمات صعبة ورموز في كل مكان.. وإذا كان الفيلمان والرواية اعتمدت علي نص أبي يغوص في عالم الطلاسم والأسحار فإن الفيلم المأخوذ عن رواية أحمد مراد بنفس الاسم أشار إلي هذا العالم السفلى بكل ما فيه من طلاسم وشفرات وخاصة أن كتب السحر الأسود العربية أفردت صفحات لاستخدام هذا النوع من السحر الأسود للنكاح، بل إنهم يشيرون إلي اسم أحد شياطين الجان المسئولين عنه، ولقد أشار الفيلم إلي أحد الكتب التي تشير إلي ذلك وهو كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» لمؤلفه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى، وهو من الكتب التي كشفت الكثير من الاتجاهات التي أثرت في الحركة الأدبية في العصر الحديث في العالمين العربي والإسلامي.. وفي النهاية يبقي أن الفيل الأزرق عمل سينمائى يحترم عقلك وينقلك إلي نوعية من السينما لا تعرف التحابيش التجارية رغم هذا الكم من الإثارة والتشويق والإبهار.