بفضل "الساحرة المستديرة" او كرة القدم يحظى الأدب البرازيلي الأن باهتمام عالمي فيما ينسحب هذا الاهتمام على كتاب شهير صدر منذ سنوات لكاتب امريكي لاتيني لم يكن ابدا من الصحفيين الرياضيين!. فالعالم الذي تتجه انظاره الآن للبرازيل مضيفة العرس الكروي العالمي او مونديال 2014 سيتجه ايضا لهذا البلد بعد عامين لمتابعة الحدث الرياضي الأعظم اي اولمبياد 2016 ومن ثم فان كل شيء في البرازيل يحظى باهتمام غير مسبوق بين اربعة اركان المعمورة. وهكذا باتت الصحافة الثقافية الغربية مهتمة الآن بصورة غير عادية بالأدب البرازيلي الجديد وابداعات كتاب لم يستحوذوا ابدا على شهرة الكاتب البرازيلي الكبير باولو كويلو صاحب "الخيميائي" مثلما فعلت صحيفة الجارديان البريطانية التي القت اضواء على كتاب القصة القصيرة في البرازيل. واذا كان يحق القول ان الأدب البرازيلي يستفيد الأن من العرس الكروي العالمي فمن الحق القول ايضا ان هذا الأدب كما يتجلي على سبيل المثال في حكايات لكتاب برازيليين معاصرين عن مدينة ريو دي جانيرو صدرت بالانجليزية بعنوان "مجموعة ريو" انما تعيد للأذهان ان البرازيل ليست مجرد كرة قدم كما ان ريو بالتأكيد ليست مجرد كارتلات للمخدرات وشطآن. ومجموعة "ريو" تحوي قصصا قصيرة عن الحياة اليومية للبرازيليين في تدافعهم بمدينة ريودي جانيرو الزاخرة بالمتناقضات وهي متناقضات فعلت افاعيلها وفجرت احتجاجات شعبية عارمة اثناء المونديال الحالي لتحمل صرخة رفض للتكاليف الهائلة التي يتطلبها العرس الكروي العالمي بينما لايجد بعض ابناء هذا البلد مايسد الرمق. وفي هذه المجموعة يطالع القاريء اسماء كتاب للقصة البرازيلية القصيرة مثل دومينجوس بيليجريني وايلفيرا فيجنا وجواو جيلبيرتو وجواو خيمينيس وباتريسيا ميلو وسيزار كارديسو ولويز روفاتو وني لوبيز وسيرجيو سانتانا ومارسيلو موتنينهو. وفي قصة "اماكن في قلب كل الأشياء" يرسم قلم ايلفيرا فيجنا الحياة اليومية التي لاتخلو من صعوبات جمة في "بلاد الكاريوكا" تتوالى مشاهدها متقاطعة مع محاولة حبيبين سابقين لاستعادة الحب الضائع في ريو كما تتحدث قصة "اكبر جسر في العالم" لدومينجوس بيلجريني عن ذلك الكهربائي الذي اجبر على عمل السخرة لاستكمال بناء جسر ريو نيتيروي في الوقت المحدد والذي لم يراع من حدده ابدا ظروف وطاقات البشر. اما سيرجيو سانتانا فيتناول في قصته "غرباء" مشاعر الحب بين غريبين ينتميان للطبقة الوسطى البرازيلية على ايقاع ودوي الرصاص لعصابات المافيا التي لاتعترف بشيء اسمه الحب. واذا كان الأدب البرازيلي قد استفاد من المونديال الحالي فان الحقيقة ذاتها تنسحب على الثقافة الأمريكية اللاتينية وكتاب هذه المنطقة التي تعشق كرة القدم والرقص والموسيقى وتحتفل بالحياة رغم كل المحن والاحن!. ولعل ذلك كله يتجلى في الكتاب الشهير لعشاق الساحرة المستديرة "كرة القدم بين الظل والشمس" لادواردو غاليانو صدر عام 1995 وهو في الحقيقة بمثابة "رسالة حب لكرة القدم" او اللعبة الشعبية الأولى في اغلب بلاد العالم او على حد وصف مؤلفه "هو تكريم لكرة القدم واحتفاء ببهجة اضوائها". والطريف حقا ان هذا الكتاب الذي كاد ان يتحول الى المرجع الذهبي في شؤون وشجون الساحرة المستديرة وبطولات كأس العالم لم يكن مؤلفه ادواردو غاليانو بالصحفي الرياضي المتخصص وانما هو في الأصل صحفي وباحث يحب كرة القدم شأنه شأن الملايين في بلاده اورجواي وامريكا اللاتينية ككل. والحقيقة ان كتاب "كرة القدم بين الظل والشمس" ليس بالكتاب المتخصص في النواحي الفنية للساحرة المستديرة بقدر ماهو كتاب يتناول اجواء اللعبة الشعبية الأولى وجوانبها المختلفة وسياقاتها المتعددة بما فيها السياق السياسي وبطولات كأس العالم التي عاصرها منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين وحتى منتصف العقد الأخير من ذلك القرن. وبلغة تجمع مابين مفردات الباحث والسخرية المحببة لايخفي ادواردو غاليانو عتابه على المثقفين الذين لايدركون اهمية كرة القدم في تشكيل عالمنا المعاصر وامزجة الشعوب. فالكتاب الذي كتب بيراع صحفي يساري التوجه نموذج للتغطية التاريخية المتعمقة لعادات وتقاليد الشعوب في دنيا كرة القدم فيما يمكن القول ان تلك النزعة اليسارية لم تكن بعيدة عن نظرته وتناوله الممتع لتاريخ الساحرة المستديرة ناهيك عن اللاعبين الذين يجري بيعهم وشراءهم واستئجارهم في صفقات رأسمالية. ويستعرض الكتاب طريقة صناعة كرة القدم منذ ايام الفراعنة الذين كانوا يصنعونها من القش او قشور الحبوب فيما كان الصينيون يصنعونها من الجلد ويحشونها بالقنب حتى ظهرت الكرة المطاطية القابلة للنفخ على يد الأمريكي تشارلز جوديير. ومن الصفحات الحزينة في تاريخ الساحرة المستديرة كما يرصدها ادواردو غاليانو في هذا الكتاب الجريمة الشنيعة للنازيين الألمان عندما قاموا باعدام لاعبي منتخب اوكرانيا عقابا لهم على انزالهم الهزيمة بالمنتخب الألماني. وربما تتجلى مشاعر الانجليز حيال خروج فريقهم من الدور الأول لمونديال 2014 في ضوء المقولة الانجليزية التي يسجلها هذا الكتاب وهي ان كرة القدم اكبر واخطر حتى من كونها قضية حياة او موت!. ويبدي مؤلف كتاب "كرة القدم بين الظل والشمس" تعاطفا واضحا مع حكام المباريات على المستطيل الأخضر وهم الذين ينصب عليهم غضب ولعنات المتعصبين وصفير استهجانهم ومااكثرهم في العالم الكروي مع انه لاأحد يركض في الملعب اكثر من حكم المباراة ليلاحق الكرة بين اقدام اللاعبين وعرقه يسيل بغزارة من زيه الأسود الذي يبدو وكأنه حداد على الذات تحت نيران المتعصبين وغضب المهزومين!. وبين اللاعبين يتعاطف غاليانو مع حارس المرمى لأنه اول من يدفع ثمن هزيمة فريقه حتى لو لم يكن مخطئا وهو ذاته الذي يتركه بقية لاعبي فريقه وحيدا مع مصيره اثناء ضربات الجزاء التي لم يتسبب فيها. وعلى اي حال يبدو ان مايحدث الآن من تداخل وتفاعل وتشابك مثير بين الثقافة وكرة القدم يثبت ان الساحرة المستديرة اضحت من ثوابت عالم يبحث عن البهجة المفقودة ويتلمسها ولو في مباراة محدودة الزمن ل90 دقيقة على مستطيل اخضر يكاد ان يلخص قصة العالم وحيرة الانسان المعاصر بين الألم والأمل!.