لا تصالح على الدم.. حتى بدم! لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرءوس سواءٌ؟! أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟! صرخ بهذه الكلمات المريرة أمل دنقل في وجه الرئيس الراحل أنور السادات حين كان يُبرم اتفاقية السلام مع إسرائيل، لكنها الآن أصبحت لسان حال ملايين المصريين، ليس موجهة لإسرائيل كما كان يقصد "الجنوبي"، بل لجماعة الإخوان المسلمين، التي أصبحت تحمل لقبي (الإرهابية والمحظورة) بموجب أحكام قضائية نهائية. يتحدث بعض النشطاء المنبوذين شعبيًا، و"محللي الفضائيات" من ذوي (الانتماءات الباهتة) عما يصفونه بحتمية مصالحة الإخوان، ويسوقون تبريرات كثيرة، لكن استوقفتني عبارة قال فيها أحدهم: "لابد نبحث عن المصلحة، ونطبطب على الجراح"، وتخيلت صدى هذه العبارة على قلوب أمهات الشهداء، سواء ممن قتلهم الإخوان وأزلامهم، أو الشباب الغضّ الذين دفع بهم قادة الجماعة لمواجهة دامية كنا في غنى عنها، لولا مكابرة القطبيين المتعطشين للدماء، ولو كانوا حكماء لحقنت دماء غزيرة، لكن قاتل الله المكابرة وفُحش الخصومة. يبدو جليًا أن هذا الطرح ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ويجب ألا ننسى أن "حديث المصالحة" يأتي وسط الأحداث المتلاحقة والمواجهات المتواصلة من قبل "فلول الإخوان" في شتى أنحاء البلاد، وينبغي أن تُدرك الحكومة حقيقتين، الأولى هي أن الشعب لم يفوضها لمهمة "الطبطبة" على القتلة والمحرضين والمخربين الذين مازالوا يقتلون جنودنا في سيناء وشتى أنحاء البلاد، والثانية أن الرئيس عبد الفتاح السيسي حسمها بقوله خلال عدة مقابلات أثناء حملته الانتخابية، "إن إرادة المصريين هي التي أنهت حكم الإخوان، ولن يكون لها وجود بالمشهد السياسي"، خاصة بعد وصمها بالإرهابية. أسأل "عرّابي المصالحات" عمن يرونهم مسكونين بشهوة الانتقام: هل هو الشعب المسالم المتضرر من مواجهات الإخوان الدامية ضد قوات الجيش والأمن، والتي نصبح ونمسي على أنباء اغتيال جنودنا، وننشد ترسيخ الأمن، وتثبيت دعائم "دولة القانون" التي تبدأ بمحاسبة كُل من تلطخت يداه بالدماء، ومن تلوثت شفتاه بالتحريض ضد جيش مصر وشرطتها، ومن أكل على "مائدة الدم" في "رابعة وأخواتها"، فهؤلاء خارج نطاق المصالحة، فالدول لا تستقيم بسياسات "الطبطبة"، بل بسيف القانون، وليس تمييع القضايا المصيرية، خاصة حينما تصدر ممن لا يملك لمن لا يستحق، فليرجع هؤلاء الداعون للمصالحة للشعب ليستمعوا لأنين الثكالى. نشطاء وإخوان خلال مرحلة التحول الراهنة ظهرت طائفة من النخب السياسية خلال الأعوام الماضية لتتصدر المشهد السياسي، واللافت أن معظمهم قدموا من الخارج بعد عقود تحولت معها حتى لكنتهم لما يشبه "لهجة الخواجات"، وصارت صلتهم بالواقع المصري كرؤية السيّاح، فهم أبعد ما يكونوا عن روح مصر ومزاج شعبها العاطفي، ولعل أبرزهم محمد البرادعي، والغريب أنهم تبخروا كأنهم كانوا مكلفين بمهمة جرى تنفيذها، وزرعوا تلاميذهم في أهم مؤسسات الدولة، وهي الرئاسة والخارجية ومجلس الوزراء السابق الذي كان يرأسه الببلاوي أما النموذج الثاني فهم من عتاة الإرهابيين الذين أفنوا زهرة شبابهم خلف القضبان وخرجوا مسكونين بمراراتٍ تعكر النيل، بعد تورطهم بجرائم إرهابية خلال تسعينيات القرن الماضي، وأطلقهم الرئيس المعزول، ليكونوا "ميليشيات مسلحة" لإرهاب خصوم الإخوان، مقابل ترضيات شاهدناها خلال العام الأسود من حكم الجماعة. لا يؤرقني نموذج الإرهابيين لأن معادلتهم بسيطة، وهي الملاحقة الأمنية والقضائية لمحاسبتهم، لكن الأخطر هم "خواجات السياسة"، الذين زيفوا وعي شباب رأى فيهم "قدوة وطنية"، ويطرح بعضهم ما أسموه "المصالحات والمبادرات لاستيعاب الإخوان"، كأن المصريين في خصومة مع الإخوان بسبب "حادث سيارة" أو مشاجرة مثلا، وتعمدوا تمييع إشكالية الإخوان، متجاهلين ما يقترفه عناصر الجماعة من جرائم قتل وتفجيرات واغتيالات وترويع للمجتمع، ولم يُشّر "حكماء المصالحة" لقانون العزل السياسي، الذي كانوا عرّابيه خلال حكم مرسي. ورغم أن قادة الجماعة يضعون شروطًا تعسفية وخرافية للاندماج بالعملية السياسية ويستحيل تنفيذها كإعادة مرسي للحكم والعمل بالدستور المُعطّل وغيرها، يخرج علينا أدعياء الحكمة بمبادرات، وحينما ذكّرت أحدهم بأنه يكيل بمكيالين، فكيف كان متحمسًا لقانون عزل "فلول" عهد مبارك خلال عضويته ببرلمان الإخوان، والآن يدغدغ مشاعرهم رغم ممارستهم العنف بشتى صوره، وإهانة الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، غضب "العرّاب" وراح يتحدث بخشونة لفظية وتهديدات بالتصعيد مستخدمًا عبارات سوقية أصبحت أسوأ سمات المرحلة الحاصل أن مصر تشهد "مرحلة فرز" كاشفة، فكم من شخصيات صُدمنا فيهم بعد 30 يونيو، بعد أن كنّا نُحسن الظنّ بهم، فإذا بعضهم يعتنقون فكر الإخوان للنخاع، والآخر يتلون ويتعامل بانتهازية، لكن تشاء العناية الإلهية فضح حقيقتهم، ومتاجرتهم بالدماء سعيًا لمغنم، أو ادعاء لموضوعية زائفة لابتزاز السلطات. قصارى القول أنه لن تتحقق "مصالحة محرمة" بالرضوخ للابتزاز والإرهاب الدموي والفكري، ولا ينبغي تبرير جرائم القتلة، فليس لهؤلاء سوى تطبيق القانون، ولا أتفهم الإفراط بالمواءمات السياسية، بظروف حرجة لا تحتمل التردد، فمحاولة استرضاء الغرب الذي يدعمهم ستجعل هؤلاء الإرهابيين يستأسدون على المجتمع أكثر.