وفى بعض الأحيان كان الالتزام بالانتماء الى دولة الخلافة العثمانية أداة تتحقق بها قدرة إضافية للنضال ضد خصوم الوطن . ولعل مصطفى كامل ومحمد فريد كانا النموذج لذلك . فهم أبناء أو بناة لحركة وطنية مناهضة فى الأساس للاحتلال البريطانى لمصر ولكن الحركة الوطنية كانت ضعيفة ومنقسمة فهناك أصحاب الجريدة مؤسسوا حزب الأمة الذين أكدوا أن مصر لا تستطيع بتكوينها المجتمعى وقدرتها الفعلية خوض معركة تصادمية مع الاحتلال ، وأن الأمر يتطلب النهوض بالفرد والأسرة أولاً والمطلوب هو نهوض فكرى يمنح الفرد القدرة على إعمال العقل سعياً نحو تحرر علم وعقلانية يبنى معها مجتمع يستطيع بذلك أن يتواجه مع الاحتلال . أما مصطفى وفريد فكانا طليعة لجماعة وطنية ترى وجوب السعى الفورى نحو الاستقلال ولأن القوة والقدرة الجماهيرية والمجتمعية كان محدودة فقد سعى مصطفى فى البداية للتحالف مع الخديوى الذى كان على خلاف مع جبروت كرومر . ونستمع إلى لطفى السيد فى مذكراته “,”أتممت الدراسة عام 1894 ، وكنا نفكر فى حالة مصر وما تعانيه من الاحتلال البريطانى ، وفى ذلك العام أنشأنا جمعية سرية غرضها تحرر مصر . وذات يوم كنت بالقاهرة فإلتقيت بمصطفى كامل فقال لى “,”أن الخديوى يعلم كل شئ عن جمعيتكم السرية وأغراضها وأظن أنه لا تنافى بينها وبين أن نشترك فى تأليف حزب وطنى تحت رئاسة الخديوى فقلت لا مانع عندى من ذلك“,” . وقابل لطفى السيد الخديوى عباس حلمى الذى طلب منه أن يسافر إلى سويسرا لمدة عام ليحصل على الجنسية السويسرية ثم يعود ليصدر جريدة لتقاوم الاحتلال .. ونواصل مع لطفى السيد “,”خرجت من مقابلة الخديوى وعقدنا اجتماعاً فى منزل محمد فريد وألفنا الحزب كجمعية سرية رئيسها الخديوى وأعضاؤها مصطفى كامل وفريد وسعيد الشيمى [ياور الخديوى] ومحمد عثمان ولبيب محرم وأنا“,” [أحمد لطفى السيد – قصة حياتى (1962) – ص21] . وفى ذات الوقت أسرع مصطفى كامل فى الكتابة إلى مدام جوليت آدم ليخبرها “,”لنا حزب سرى مخلص للغاية وهو على إستعداد للتضحية بذاته فى سبيل الوطن المقدس“,” [رسائل مصرية فرنسية – ترجمة على فهمى كامل (1909) – ص39] . لكن هذا الحزب ينفرط عقده ، لطفى السيد وجماعته شكلاً مجموعة أصدرت “,”الجريدة“,” وأسست حزب الأمة .. الساعى أولاً نحو تكوين الفرد والأسرة ، أما مصطفى وفريد فقد مضيا فى طريقهما ضد الاحتلال . وتحالفا مع فرنسا أملاً فى دعمها ضد الانجليز ويعلو صوت مصطفى كامل شعراً : أفرنسا يا من رفعت البلايا عن شعوب تهزها ذاكراك أنصرى مصر إن مصر بسوء وإحفظى النيل من مهاوى الهلاك وأنشرى فى الورى الحقائق حتى تجتلى الخير أمة تهواك ويختتم رسالته إلى البرلمان الفرنسى “,”عاشت فرنسا محررة الأمم“,” لكنه لا يلبث أن يكتشف أن فرنسا تبيعه هى وكل أوربا فى صفقه مع الانجليز فيكتب الى مدام جوليت آدم “,”أنى لا أجد الكلمات التى أعبر بها عن استيائى.. يا للعار ، إنه خير درس لنا نحن الذين طالما إعتمدنا على أوربا“,” [للتفاصيل راجع : د. رفعت السعيد – محمد فريد – الموقف والمأساة – ص158 وما بعدها] ثم يفقد مصطفى الثقة فى الخديوى الذى مد له حبال الأمل ثم ما لبث أن رضخ لضغوط الانجليز وخشى من أن يقوموا بعزله . وتنشر ليتندار [صحيفة الحزب الوطنى الناطقة بالفرنسية] تصريحاً للخديوى يتملق فيه الاحتلال وترد عليه “,”سواء كان الخديوى على علاقة طيبة أو سيئة مع الانجليز فإننا سنستميت فى كفاحنا ، إننا نخدم الوطن الذى يسمو على جميع الخديويين وجميع الرجال“,” [ليتندار – 27- 5- 1907] . ثم تنشر “,”اللواء“,” قصيدة تنعى فيها علاقة كانت حميمة جداً مع الخديوى وربما كانت أكثر من حميمة.. أعباس هذا آخر العهد بيننا فلا تخشى منا بعد ذاك عتاباً ونيأس من أمالنا فيك كلما قضيت علينا أن نكون غاضباً وأرضيت أعداء البلاد وأهلها وأصليتنا بعد الوفاق عذاباً ألا أمطر الله الوزارة نقمة ولا بلغت مما تروم مراماً وكى نعرف قدر هذا الغضب من الخديوى يكفى أن نقول أن هذا القصيدة كانت تعليقاً على إصدار الحكومة قانون المطبوعات الذى صيغ بعسف شديد ليحكم أفواه المعارضة . وهكذا تمرد مصطفى وفريد على الخديوى الذى رد عليهم فى تصريح لجريدة “,”الطان“,” الفرنسية قائلاً “,”لقد اشتغلت دائماً بترقية بلادى وتقدمها فى الحضارة ، ولكن للأسف وجد قوم متسرعون جداً جداً أخروا تقدمها الطبيعى بإلحاحهم على مطالب سابقة لأوانها ومصحوبة بالضوضاء . ولى وطيد الأمر فى القيام بمهمتنا بمساعدة البلد الذى يؤيد مصرنا تأييداً قوياً فى رفع شأنها وتمدينها وهوبريطانيا . وإن وجود سير جورست ممثل هذا البلد بيننا يعتبر ضمانة وثيقة ليتحقق ذلك“,” [عبد الرحمن الرافعى – محمد فريد – ص199] وشن فريد الحرب علانية على الخديوى “,”وفى 19 يناير 1912 أقيم حفل بدار الأوبرا وعند حضور مندوب الخديوى عزفت الموسيقى السلام الخديوى فوقف الجميع إلا محمد فريد ولما عاتبه حسين باشا رشدى أجابه فريد بك “,”ليس هناك قانون يحتم على الوقوف“,” [أحمد شفيق باشا- مذكرات عام 1912] . فماذا تبقى أمام فريد ومصطفى كسند لهما فى المعركة ضد الاحتلال ؟ دولة الخلافة التى راهن عليها مصطفى ومعه فريد فى مساندتهما مالياً ومعنوياً وأدبياً . مستندين إلى مهابة كلمتى “,”الخلافة“,” والخليفة فى معركتهما البالغة الصعوبة .