القومي للإعاقة يطلق غرفة عمليات لمتابعة انتخابات النواب 2025    «قومي المرأة» يكرم فريق رصد دراما رمضان 2025    وزارة« التموين» تؤكد عدم تغيير سعر وجودة رغيف العيش المدعم للمستهلكين    المدير الإقليمي لليونسكو بالقاهرة: تعمل على إصدار توصيات بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي    لو زوجتك مش على بطاقتك التموينية.. الحل فى 3 دقائق    «المرشدين السياحيين»: المتحف المصرى الكبير سيحدث دفعة قوية للسياحة    الحكومة الإسرائيلية: لن تكون هناك قوات تركية في غزة    أردوغان: أكثر من 1.29 مليون لاجئ سوري عادوا إلى بلادهم منذ 2016    الاتحاد الأوروبي يرفض استخدام واشنطن القوة ضد قوارب في الكاريبي    عضو بالحزب الجمهوري: ترامب والديمقراطيون يتحملون مسؤولية الإغلاق والمحكمة العليا أصبحت سياسية    أشرف داري بعد التتويج بالسوبر: الأهلي دائمًا على قدر المسئولية    أب يكتشف وفاة طفليه أثناء إيقاظهما من النوم في الصف    خيانة تنتهي بجريمة.. 3 قصص دامية تكشف الوجه المظلم للعلاقات المحرمة    حبس المتهمين في مشاجرة بالسلاح الناري في أسيوط    سمر فودة تُثير الجدل بسبب «الهوية المصرية».. أزمة «الجلابية» بين التأييد والرفض (تقرير)    محمود مسلم ل كلمة أخيرة: منافسة قوية على المقاعد الفردية بانتخابات النواب 2025    محافظ الغربية يتفقد مستشفى قطور المركزي وعيادة التأمين الصحي    استشاري: العصائر بأنواعها ممنوعة وسكر الفاكهة تأثيره مثل الكحول على الكبد    برنامج مطروح للنقاش يستعرض الانتخابات العراقية وسط أزمات الشرق الأوسط    بث مباشر.. البابا تواضروس يشارك في احتفالية مرور 17 قرنًا على انعقاد مجمع نيقية    «فريق المليار يستحق اللقب».. تعليق مثير من خالد الغندور بعد فوز الأهلي على الزمالك    شبيه شخصية جعفر العمدة يقدم واجب العزاء فى وفاة والد محمد رمضان    قراءة صورة    «ما تجاملش حد على حساب مصر».. تصريحات ياسر جلال عن «إنزال صاعقة جزائريين في ميدان التحرير» تثير جدلًا    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    أهالي «علم الروم»: لا نرفض مخطط التطوير شرط التعويض العادل    الخارجية الباكستانية تتهم أفغانستان بالفشل في اتخاذ إجراءات ضد الإرهاب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    قتل وهو ساجد.. التصريح بدفن جثة معلم أزهرى قتله شخص داخل مسجد بقنا    غدًا.. وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة فى لقاء خاص على القاهرة الإخبارية    استعدادات أمنية مكثفة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025    بيحبوا يثيروا الجدل.. 4 أبراج جريئة بطبعها    حزب السادات: مشهد المصريين بالخارج في الانتخابات ملحمة وطنية تؤكد وحدة الصف    رسميًا.. بدء إجراء المقابلات الشخصية للمتقدمين للعمل بمساجد النذور ل«أوقاف الإسكندرية»    توقيع مذكرة تفاهم لدمج مستشفى «شفاء الأورمان» بالأقصر ضمن منظومة المستشفيات الجامعية    أخبار السعودية اليوم.. إعدام مواطنين لانضمامهما إلى جماعة إرهابية    راحة 4 أيام للاعبي الاتحاد السعودي بعد خسارة ديربي جدة    الصدفة تكتب تاريخ جديد لمنتخب مصر لكرة القدم النسائية ويتأهل لأمم إفريقيا للمرة الثالثة في تاريخه    محافظ بني سويف ورئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة يفتتحان فرع المجلس بديوان عام المحافظة    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    رئيس البورصة: 5 شركات جديدة تستعد للقيد خلال 2026    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    زيادة فى الهجمات ضد مساجد بريطانيا.. تقرير: استهداف 25 مسجدا فى 4 أشهر    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    التشكيل المتوقع للزمالك أمام الأهلي في نهائي السوبر    نهائي السوبر.. الأهلي والزمالك على موعد مع اللقب 23    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    طارق السعيد: أُفضّل شكرى عن كوكا فى تشكيل الأهلى وشخصية زيزو مثل السعيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاكمية كعقيدة سياسية مغلقة.. من الشعار إلى السلاح
نشر في البوابة يوم 11 - 08 - 2025

يأتي كتاب "متاهة الحاكمية" للباحث هاني نسيرة كإضافة نوعية إلى سلسلة الدراسات الفكرية التي تسعى إلى تفكيك البنية العقائدية والتنظيرية للجماعات الجهادية المعاصرة، من خلال نقد إحدى أهم الركائز التي اعتمدت عليها في بناء مشروعها السياسي والديني، وهي مفهوم الحاكمية. هذا المفهوم، الذي بدأ كشعار قرآني في سياقات تاريخية محددة، أعيد توظيفه عبر القرون ليصبح أداة أيديولوجية للصدام والتكفير، وصولًا إلى موقعه المركزي في خطاب الحركات الجهادية في القرن العشرين والحادي والعشرين.
الكتاب، في بنيته ومنهجه، لا يكتفي بمجرد عرض الأفكار أو تتبع الأصول التاريخية، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة الأسس النصية والتاريخية التي استندت إليها هذه الجماعات، وإعادة قراءة النصوص المؤسسة التي اقتبستها، وخاصة تراث ابن تيمية، في ضوء ظروفها وسياقاتها السياسية والاجتماعية. كما يحرص نسيرة على كشف آليات الانتقاء والاجتزاء التي استخدمها الخطاب الجهادي لإعادة صياغة هذه النصوص بما يخدم رؤيته الصدامية.
وفي هذه القراءة التحليلية الموسعة للكتاب، سنتوقف عند خمسة محاور أساسية:
أولًا، الجذور الأولى للحاكمية منذ الخوارج وحتى المودودي وسيد قطب، وكيف تحولت من مبدأ فقهي إلى أيديولوجيا تكفيرية.
ثانيًا، إعادة قراءة تراث ابن تيمية بعيدًا عن الاستخدام الانتقائي، مع إبراز الارتباط الوثيق بين فتاواه والظروف السياسية لعصره.
ثالثًا، النقد المزدوج الذي يوجهه نسيرة، في مواجهة القراءة الجهادية من جهة، وقصور الفكر الإسلامي السائد من جهة أخرى.
رابعًا، تحليل تحول الحاكمية إلى عقيدة سياسية مغلقة، وفهم علاقتها بظاهرة التغريب عن الواقع.
وأخيرًا، تقييم قيمة الكتاب وأهميته في مشروع المراجعة الفكرية، مع عرض بعض الملاحظات النقدية على منهجه.
بهذا، لا تقتصر أهمية الكتاب على كشف الخلل في خطاب الجهاديين، بل تمتد إلى دعوة أوسع لإعادة بناء العلاقة مع التراث على أسس أكثر وعيًا وانفتاحًا، وهو ما سنسعى إلى تفصيله في عرضنا هذا.

أولًا: الحاكمية... من الجذور الأولى إلى القراءات الحديثة
يبدأ هاني نسيرة تحليله بإرجاع مفهوم "الحاكمية" إلى جذوره التاريخية الأولى في خطاب الخوارج بعد معركة صفين، حيث رفعوا شعار "إن الحكم إلا لله" لا باعتباره عبارة دينية محضة، بل كسلاح سياسي في مواجهة خصومهم، وكذريعة لتكفيرهم. في هذا السياق، خرج النص القرآني من إطاره التفسيري الطبيعي، وتحول إلى أداة للصراع السياسي والإقصاء، وكأنه إعلان بأن أي حكم بشري يُعد تعديًا على حق الله في التشريع.
هذا التسييس المبكر للنصوص وضع البذرة الأولى لفكرة الحاكمية بوصفها معيارًا للفصل بين "مؤمن" و"كافر"، أو بين "شرعي" و"غير شرعي". ومع مرور الزمن، ظل هذا المعنى كامنًا في الذاكرة الفكرية لبعض التيارات، حتى جاء القرن العشرون، فأعاد أبو الأعلى المودودي إحياء المصطلح ضمن مشروعه الفكري الذي سعى إلى صياغة نموذج سياسي إسلامي معاصر.
المودودي منح الحاكمية بعدًا مؤسساتيًا، معتبرًا أن السيادة في الدولة يجب أن تكون لله وحده، وأن دور البشر يقتصر على تنفيذ أحكام شريعته. ورغم الطابع الراديكالي للفكرة، فإن المودودي ظل يطرحها ضمن إطار تنظيري سياسي واسع، ولم يمنحها البعد الوجودي المطلق الذي ستأخذه لاحقًا على يد سيد قطب.
سيد قطب، وخاصة في كتابيه "معالم في الطريق" و"في ظلال القرآن"، ذهب بمفهوم الحاكمية إلى أقصى مداه، إذ اعتبر أن المجتمعات المعاصرة كلها تعيش في جاهلية جديدة لأنها لم تطبق الشريعة كما يتصورها. وبهذا، تحولت الحاكمية من مبدأ فقهي ينظم العلاقة بين التشريع والسلطة، إلى أيديولوجيا تكفيرية شاملة، ترى الصراع بين الإيمان والكفر ممتدًا في كل مكان وزمان، الأمر الذي مهد الطريق أمام الجماعات الجهادية المعاصرة لتبنيها كعقيدة قتالية ضد الدول والمجتمعات الحديثة.

ثانيًا: ابن تيمية بين النص والسياق
يُبرز هاني نسيرة في كتابه أن الجزء الأكثر أهمية في النقاش حول الحاكمية يتمثل في إعادة قراءة تراث ابن تيمية بعيدًا عن الانتقائية التي مارستها الجماعات الجهادية. فهذه الجماعات كثيرًا ما اقتطعت أقواله وفتاواه من سياقها الزمني والسياسي لتوظفها في بناء منظومتها التكفيرية المعاصرة. بينما، عند العودة إلى نصوص ابن تيمية في إطارها التاريخي، يظهر بوضوح أنه كان يتعامل مع قضايا الحكم والسياسة ضمن واقع معقد، مليء بالصراعات الداخلية، ومهدد بغزوات خارجية.
لقد عاش ابن تيمية في زمن تميّز بوجود خطرين كبيرين يهددان كيان الأمة الإسلامية: الأول هو الخطر الخارجي المتمثل في التتار (المغول) والصليبيين، والثاني هو الانقسامات الداخلية بين القوى الإسلامية نفسها. هذا الوضع المضطرب دفعه إلى إصدار فتاوى تستجيب لحاجات عاجلة، وتخاطب أوضاعًا محددة بعينها، كان الهدف منها في المقام الأول حماية الجماعة الإسلامية واستقرارها في مواجهة الأخطار المحدقة بها.
من هنا، يرى نسيرة أن فتاوى ابن تيمية لم تكن أحكامًا مطلقة تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان، بل كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية التي صدرت فيها. على سبيل المثال، فتواه الشهيرة في قتال التتار جاءت في سياق غزو خارجي حقيقي، وكانت موجهة لتحشيد الصف الإسلامي ضد عدو يهدد وجود الدولة والمجتمع.
لكن الجماعات الجهادية المعاصرة تعاملت مع هذه الفتوى وكأنها قاعدة عامة وأبدية، فقامت باقتطاعها من سياقها، وأسقطتها على أوضاع المجتمعات الإسلامية الحديثة، معتبرة أن أي حكومة أو نظام لا يطبق الشريعة وفق فهمها الخاص هو بمثابة "تتار" يجب مقاتلته. هذا الاستخدام المجتزأ أدى إلى تشويه مقصد ابن تيمية، وتحويل فتاواه من أدوات دفاعية ظرفية إلى مبررات أيديولوجية للعنف الدائم والصراع المفتوح.

ثالثًا: النقد المزدوج
يطرح هاني نسيرة في كتابه ما يمكن تسميته ب "النقد المزدوج"، وهو نقد يتجه في مسارين متوازيين. المسار الأول يواجه القراءة الجهادية التي جعلت من مفهوم الحاكمية معيارًا شاملًا للتكفير، بحيث تم توظيفه كأداة لفرز المجتمعات والحكومات بين مؤمنة وكافرة على أساس ضيق ومغلق. هذا التوظيف أفرغ المفهوم من أي أبعاد إصلاحية أو سياسية مرنة، وحوله إلى عقيدة صدامية مطلقة لا تعترف بالتنوع ولا بالاجتهاد.
أما المسار الثاني من النقد فيتوجه إلى القصور العميق في الفكر الإسلامي الوسيط والمعاصر، الذي لم يطوّر أدوات نقدية أو رؤى تجديدية كافية للتعامل مع التحديات الجديدة. هذا القصور خلق فراغًا فكريًا وروحيًا استغلته الجماعات المتطرفة، فملأته بخطاباتها الحادة التي تدّعي أنها تمثل الإسلام الصحيح، بينما هي في الحقيقة تقدم قراءة مشوهة ومنتقاة للنصوص والتراث.
ينتقد نسيرة بوضوح المنهجية السائدة لدى هذه التيارات في التعامل مع النصوص، والتي تقوم على منطق الجزئية والانتقائية؛ إذ يتم اقتطاع آية أو حديث أو فتوى من سياقها التاريخي والمعرفي، ثم تُحمّل بمعانٍ وأحكام لم تكن مقصودة أصلًا عند صدورها. ويرى أن هذا الأسلوب لا يقتصر على الجماعات المتطرفة، بل يمتد أحيانًا إلى الخطاب الديني التقليدي الذي يفتقر إلى القراءة الشمولية المتوازنة.
ومن هنا يؤكد المؤلف على ضرورة إعادة النظر في التراث برؤية مقاصدية، تجمع بين النص ومقتضيات الواقع، بحيث يُقرأ النص في ضوء غايته ومقاصده الكبرى لا في ضوء جزئياته المجتزأة فقط. هذا التوجه، في رأيه، هو السبيل لتجاوز التفسيرات المتطرفة، واستعادة التوازن بين الثابت الديني والمتغير الزمني، بما يسمح للفكر الإسلامي أن يتفاعل مع العصر دون أن يفقد هويته.

رابعًا: الحاكمية كعقيدة سياسية مغلقة
يفصّل هاني نسيرة في تحليله لكيفية تحول مفهوم الحاكمية من مبدأ شرعي أصيل هدفه تحقيق العدل وضبط العلاقة بين السلطة والنص، إلى عقيدة سياسية مغلقة تضع الدين في حالة صدام دائم مع المجتمع والدولة. هذا التحول، في نظره، أفرغ الفكرة من مضمونها الإصلاحي، وجعلها أداة أيديولوجية تحكم على الأنظمة والمجتمعات من منظور الإيمان والكفر، بدلًا من تقييمها بمعايير العدل والصلاح.
ويرى نسيرة أن خطورة هذا التحول تكمن في أنه يقصي أي شكل من أشكال الاجتهاد البشري أو التعددية الفقهية، ويكرّس فكرة أن هناك نموذجًا معياريًا واحدًا للحكم والدولة هو وحده الموافق للدين، وما عداه يعد خيانة أو انحرافًا. وبهذا المنطق، تصبح كل محاولة لتطوير النظم السياسية أو التكيف مع متغيرات العصر خروجًا عن الدين، وهو ما يفتح الباب أمام الصراع المستمر بدلًا من البناء المشترك.
كما يربط المؤلف هذا الانغلاق الذهني بظاهرة يسميها "التغريب عن الواقع"، وهي حالة من الانفصال بين الفكر والواقع المعاش، حيث يتم التعامل مع النصوص بوصفها كيانات معزولة عن سياقها الاجتماعي والسياسي. في هذا الإطار، يتم تجاهل التعقيدات الحقيقية للمجتمعات الحديثة، لصالح إسقاط أحكام جاهزة على واقع مغاير تمامًا للبيئة التي صدرت فيها النصوص.
هذا التغريب عن الواقع، كما يوضح نسيرة، جعل خطاب الجماعات الجهادية عاجزًا عن تقديم حلول عملية للمشكلات الفعلية، ومحصورًا في ترديد شعارات صدامية. وهو ما أدى في النهاية إلى إنتاج عقلية سياسية مغلقة، ترى التغيير فقط من خلال المواجهة والقطيعة، لا من خلال الإصلاح والتجديد، وهو ما يفاقم حالة الاستقطاب ويعزل الدين عن الحياة العامة.

خامسًا: قيمة الكتاب وأهميته
تتمثل قيمة كتاب "متاهة الحاكمية" في كونه لا يكتفي بمهمة تفكيك الخطاب الجهادي وفضح أسسه الفكرية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تقديم شخصية ابن تيمية بوصفها شخصية فكرية مركبة ومعقدة، بعيدة كل البعد عن الصورة الأحادية التي رسمتها لها الجماعات المتطرفة. فابن تيمية، كما يقدمه نسيرة، ليس مجرد "شيخ السيف" الذي يبرر القتال، بل مفكر عاش في سياق تاريخي خاص، وله مواقف متعددة ومتباينة تبعًا للظروف التي واجهها.
هذه المقاربة تعيد الاعتبار للقراءة التاريخية للنصوص التراثية، إذ تمنح القارئ الأدوات اللازمة لفهم السياق الذي أنتج تلك النصوص، وتكشف كيف يمكن أن يؤدي اقتطاعها من بيئتها الأصلية إلى تحريف مقاصدها. وهنا تكمن إحدى نقاط قوة الكتاب، فهو يسلح القارئ بوعي نقدي يمكنه من مواجهة محاولات الاستغلال الأيديولوجي للتراث التي تمارسها الجماعات المتطرفة.
كما أن الكتاب يُعد خطوة مهمة في إطار مشروع فكري أوسع يهدف إلى مراجعة المنظومات التفسيرية التي سيطرت على الفكر الإسلامي في القرون الأخيرة، والتي اتسمت بدرجة كبيرة من الجمود والانغلاق. هذا الجمود، كما يشير نسيرة، لم يترك فقط مساحة خالية أمام الفكر الجهادي ليتغلغل، بل ساهم أيضًا في إضعاف قدرة المجتمعات الإسلامية على إنتاج خطاب ديني معاصر قادر على الاستجابة للتحديات.
وبهذا المعنى، فإن "متاهة الحاكمية" ليس مجرد دراسة نقدية لخطاب العنف، بل هو دعوة مفتوحة لإعادة بناء العلاقة مع التراث على أسس أكثر وعيًا وانفتاحًا، بما يسمح ببعث الفكر الإسلامي في صيغة متجددة تحترم النصوص وتفهم مقاصدها، وفي الوقت نفسه تنفتح على الواقع وتتعامل معه بمرونة وإبداع.

سادسًا: ملاحظات نقدية
على الرغم من الأهمية الكبيرة التي يتمتع بها كتاب "متاهة الحاكمية"، فإن هناك بعض الملاحظات النقدية التي يمكن تسجيلها عليه. أول هذه الملاحظات تتعلق باعتماده في بعض المواضع على العرض السردي أكثر من التحليل التفكيكي العميق، خاصة عند تناوله للجذور التاريخية لمفهوم الحاكمية قبل العصر الحديث. فالقارئ يلمس أن هذه المرحلة التاريخية عُرضت بأسلوب موجز ومباشر، في حين كان بالإمكان تقديم قراءة تحليلية أعمق لهذه الجذور، وربطها بتطور المفهوم في المراحل اللاحقة على نحو أكثر تفصيلًا.
كما أن الكتاب، رغم وضوح هدفه المعلن في إعادة الاعتبار للسياق التاريخي للنصوص والفتاوى، يميل أحيانًا إلى الدفاع عن ابن تيمية أكثر من مساءلته نقديًا. ففي بعض المواضع، يظهر ابن تيمية في صورة منزهة إلى حد ما من الأخطاء أو الإشكالات الفكرية، وهو ما قد يضعف من حدة المراجعة النقدية التي يطمح إليها المؤلف. إذ كان من الممكن أن يتبنى نسيرة موقفًا أكثر توازنًا، يجمع بين إبراز الظلم الذي لحق بابن تيمية من القراءات الجهادية، وبين تقييم نقدي لمحدودية بعض أفكاره أو إشكالاتها في ضوء متطلبات العصر.
ومن الملاحظ أيضًا أن الكتاب كان بإمكانه توسيع دائرة المقارنة بين مفهوم الحاكمية في المدرسة السلفية التي ركز عليها، وبين مفاهيم الحكم والسلطة في مدارس الفكر الإسلامي الأخرى، مثل المدرسة المقاصدية، أو الفكر السياسي عند فقهاء المذاهب المختلفة، أو حتى الاجتهادات المعاصرة التي حاولت صياغة نماذج أكثر مرونة. هذا التوسع كان سيمنح التحليل عمقًا إضافيًا ويبرز تنوع الرؤى داخل التراث الإسلامي نفسه.
وأخيرًا، يمكن القول إن هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة العمل، لكنها تفتح المجال أمام تطويره في طبعات لاحقة أو في أبحاث مكملة. إذ إن معالجة مفهوم إشكالي مثل الحاكمية تحتاج إلى مقاربة متعددة الأبعاد، تجمع بين التحليل النصي، والقراءة التاريخية، والمقارنة الفكرية الواسعة، حتى يتم تفكيكه وإعادة بنائه في سياق أكثر وعيًا وارتباطًا بمتغيرات العصر.

خاتمة
يظل كتاب "متاهة الحاكمية" للباحث هاني نسيرة محطة بارزة في سياق معركة الوعي ضد الفكر المتطرف، لأنه لا يكتفي بمجرد نقد فكرة أو رد شبهة، بل يغوص في البنية العميقة للمفهوم، محللًا جذوره التاريخية، وكاشفًا عن مسارات تطوره، وموضحًا كيف جرى استغلاله أيديولوجيًا لخدمة مشاريع سياسية عنيفة. هذا التوجه يمنح الكتاب بعدًا استراتيجيًا في مواجهة التطرف، لأنه يتعامل مع المسببات الفكرية لا مع النتائج فقط.
أهمية العمل أيضًا تكمن في أنه يعيد وصل التراث بسياقاته الحقيقية، فلا يترك النصوص التراثية في فراغ أو في أيدي من يقتطعها من تاريخها، بل يعيد وضعها في إطارها الزمني والاجتماعي والسياسي، مما يحميها من التوظيف المشوه. فالكتاب يوضح أن كثيرًا من الفتاوى والأحكام التي تُستحضر اليوم لتبرير العنف كانت في الأصل استجابات ظرفية لمواقف محددة، وليست قواعد أبدية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
كما يقدم الكتاب دعوة صريحة للتحرر من أسر القراءات الانتقائية التي تعتمد على الاجتزاء وتجاهل السياق، وهي قراءات لا تقتصر على الجماعات الجهادية، بل تمتد أحيانًا إلى الخطاب الديني التقليدي نفسه. هذه الدعوة تنفتح على ضرورة تبني منهجية علمية نقدية، تجمع بين النص ومقاصده، وبين العقل وأدواته التحليلية، وبين الواقع ومتطلباته، بحيث يصبح الدين مصدر إلهام للتعايش والإصلاح، لا ذريعة للانقسام والصراع.
وفي المحصلة، يقدّم "متاهة الحاكمية" أكثر من مجرد دراسة نقدية لمفهوم إشكالي؛ إنه مشروع لإعادة التوازن بين النص والعقل والواقع، ولتحرير الخطاب الإسلامي من قبضة الأيديولوجيا المغلقة. ومن هنا، يمكن اعتباره لبنة أساسية في بناء وعي جديد قادر على مواجهة التطرف فكريًا وثقافيًا، وفتح الطريق أمام قراءة أكثر وعيًا ومرونة للتراث، بما يخدم نهضة المجتمعات الإسلامية في الحاضر والمستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.