د. هويدا صالح تحتل إشكالية «الفكر السلفى» اليوم موقعًا محوريًا فى النقاشات الفكرية والثقافية والسياسية داخل العالمين العربى والإسلامى، ليس فقط بسبب الأثر الواسع لهذا التيار فى تشكيل الخطابات الدينية، بل لما خلفه من «تأزيم معرفى وثقافى» يتجلى فى الموقف من الحداثة، والدولة المدنية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة. من هنا تأتى أهمية كتاب «نقد الفكر السلفي» للدكتور محمد السيد إسماعيل، الذى صدر مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية والذى يشكل «محاولة فكرية جادة وشجاعة» لتفكيك بنية العقل السلفى، قراءةً ونقدًا وتأصيلًا. فالكتاب لا يكتفى برصد الفتاوى المتطرفة أو تحليل الشعارات السياسية، بل يقدم قراءة عميقة للأصول المرجعية التى يستند إليها الخطاب السلفى — من ابن تيمية إلى المودودى وسيد قطب — متتبعًا تطوراته المعاصرة لدى تيارات العنف والتكفير. ويأتى هذا الكتاب كواحد من أهم المحاولات الفكرية الجادة لتفكيك بنيات العقل السلفى المعاصر، الذى شكل على امتداد القرن العشرين وإلى يومنا هذا تيارًا فكريًا وسياسيًا وثقافيًا له حضور واسع وآثار عميقة على المجتمعات العربية والإسلامية. يمتاز الكتاب بثلاث سمات رئيسية: أولًا، شمولية المعالجة؛ ثانيًا، وضوح اللغة والتوثيق التاريخي؛ وثالثًا، الالتزام برؤية نقدية صارمة لكنها غير متشنجة. فالكاتب يتجنب فخ التحامل الأيديولوجى، ويعمل على تفكيك الأنساق الفكرية من الداخل عبر تحليل النصوص والمفاهيم. سوسيولوجيا التناقض السلفى: ينطلق المؤلف من أن السلفية ليست خطابًا فكريًا واحدًا متماسكًا، بل هى مجموعة من الخطابات والممارسات المتباينة والمتناقضة سياسيًا وفكريًا. فيرصد، بدقة، كيف يحرّم بعض السلفيين المعارضة السياسية ويعتبرون الحاكم ظلّ الله، بينما يبيح آخرون الخروج عليه بالسلاح. بل أكثر من ذلك: كيف يرفض تيار واسع الديمقراطية باعتبارها «نظامًا كفريًا»، مستندًا إلى القراءة الحرفية للنصوص وإلى العداء المتجذر تجاه الحداثة. تكمن قيمة هذا التحليل فى قدرته على كشف «الميل العام نحو النصوصية» وتهميش العقل والاجتهاد. ينقل المؤلف عن ابن تيمية وابن القيم كيف يُعاد إنتاج سلطة «السلف الصالح» بوصفها الحقيقة المطلقة، وأن «الإبداع بدعة»، وأن الاتباع وحده هو الفريضة. هذه النزعة المحافظة تكشف، بحسب الكاتب، «إرادة اغتراب معرفى» تسعى إلى تثبيت رؤية العالم كما كان قبل ألف عام، متجاهلة تحولات الزمان والمكان. الحاكمية والتكفير السياسى: ينفرد الكتاب بتشريح معمق لمفهوم «الحاكمية» الذى أسس له المودودى، ثم طوره سيد قطب إلى أداة لإدانة الدولة الوطنية الحديثة. ومن ثم يُبيّن المؤلف كيف تحوّلت فكرة الحاكمية إلى أحد أخطر المفاهيم السياسية فى الفكر السلفي-الإخوانى، حين أصبحت مرجعية لتكفير الحكام والجيوش والمجتمعات ذاتها. هذا التحليل ليس جديدًا فى الأدبيات النقدية، لكنه هنا يكتسب عمقًا خاصًا بربطه بين السياق التاريخى — من رفع المصاحف فى صفين إلى أدبيات داعش. بل يذهب أبعد من ذلك حين يربط بين «ماضوية الفكرة» وبين انسداد الأفق الإصلاحى فى تيارات الإسلام السياسى، إذ تتعامل مع الدولة بوصفها كيانًا مؤقتًا ينبغى تجاوزه لصالح «دولة الخلافة»، دون وعى بضرورات الدولة الحديثة ومقوماتها. نقد نظرية الإمامة: من الخوارج إلى ولاية الفقيه: يمضى الكاتب بتحليل «نظرية الإمامة» فى الفكرين السنى والشيعى، ليظهر أن كليهما — رغم اختلاف العبارات والمراجع — يقوم على تبرير الاستبداد السياسى. يقتبس المؤلف من أبو العلاء المعرى وابن القيم لبيان أن «لا إمام سوى العقل»، فى مقابل خطاب يشرعن قدسية الإمام أو الخليفة، مانعًا إمكان المساءلة. قيمة هذا القسم تكمن فى الربط بين الاستبداد الدينى والسياسى، إذ يرى المؤلف أن كل حديث عن «شرعية دينية» يفتح الباب للتسلط والكهنوت، سواء كان باسم السنة أو الشيعة، وهو ما يتجلى فى (ممارسات الأنظمة الإسلامية الحديثة.. ولاية الفقيه نموذجًا). السلفية والمرأة: تأبيد دونية الأنثى: فى أحد الفصول القوية، يفكك الكاتب «المنظور السلفى للمرأة»، فيكشف كيف تُصاغ المرأة فى الخطاب السلفى بوصفها «عورة»، و»فتنة»، و»ناقصة عقل ودين»، وبأن خروجها من البيت معصية لا يتوقف عند نقل الفتاوى المتطرفة، بل يحلل «البنية الذهنية» التى ترى فى المرأة مشروع فتنة ينبغى إخضاعها. يربط المؤلف هذا التصور بجذر نصوصي-ماضوى يستند إلى أحاديث ضعيفة أو شاذة، ويُظهر كيف أن هذا المنظور يتناقض مع روح القرآن نفسه ومع السيرة النبوية. وهو هنا يقدم مساهمة مهمة فى تفكيك «الخطاب الفقهى الموروث»، داعيًا إلى قراءة مقاصدية ترحب بالاجتهاد. تكفير المواطنة: من المحاور اللافتة للنظر والتى تحتاج إلى تأمل عميق هو محور «رفض العقل السلفى لفكرة المواطنة». حيث يوضح كيف أن السلفيين، فى بنيتهم العميقة، يرفضون الدولة القومية الحديثة، لأنها تساوى بين المواطنين بغضّ النظر عن الدين. فهم يرون الوطن مجرد «أرض»، لا قيمة لها فى مقابل الأمة الإسلامية المتوهمة. من هنا يأتى عداؤهم للأقباط، ورفضهم مشاركة غير المسلمين فى الجيش، أو تهنئتهم بالأعياد، أو مساواتهم فى الحقوق. هنا ينكشف البُعد «المضاد للتاريخ» فى الخطاب السلفي: إذ يتعامل مع الدولة المعاصرة بمفاهيم القرون الوسطى، ولا يستطيع استيعاب فكرة أن «الوطنية» اليوم ليست ضد الإسلام بل جزء من البناء المدنى الحديث. ثقافة التكفير: بين السيف والقلم: يلامس الكتاب فى نهايته « أخطر إشكاليات العقل السلفي» : الميل إلى التكفير. ليس فقط تكفير الحكام، بل أيضًا تكفير المفكرين والشعراء، بل والمجتمعات. يقف المؤلف طويلاً عند قضية الشاعر أشرف فياض، ويُبرز كيف أن التأويل القسرى للعبارات الشعرية يمكن أن يؤدى إلى الإعدام. ينبهنا المؤلف إلى أن هذا الميل التكفيرى ليس عرضيًا، بل هو «نتاج البنية المغلقة للنصوصية السلفية»، التى ترفض الرمز والمجاز والفن، ولا ترى فى الشعر سوى نصًا «عقيديًا» ينبغى أن يخضع إلى معيار الإيمان والكفر. فى سبيل ثقافة بديلة: يمثل القسم الثالث من الكتاب — «نحو ثقافة بديلة» — محاولة جادة للخروج من هذا الأفق المظلم. يطرح المؤلف أهمية التجديد الفقهى، ومقاصد الشريعة، وقيم الحداثة، وفلسفة حقوق الإنسان. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يؤكد أن «الإسلام دين لا دولة»، وأن الديمقراطية ليست نقيض الإسلام، بل أقرب النظم لتحقيق مقاصده العليا: الكرامة، الحرية، العدل. فى ضرورة المواجهة النقدية: يمكن القول بثقة إن كتاب «نقد الفكر السلفي» للدكتور محمد السيد إسماعيل يمثل أحد أهم الكتب الفكرية التى صدرت فى السنوات الأخيرة فى مجال نقد الإسلام السياسى، ليس لأنه يكتفى بفضح أخطاء الفتاوى أو التناقضات السياسية، بل لأنه يقدم «تفكيكًا بنيويًا للعقل السلفي»: نصوصيته، ذكوريته، عداءه للمواطنة، وميوله التكفيرية. يضع المؤلف يده على الجرح الأكبر: أن « الخطر السلفى ليس فى وجوده كتيار دينى، بل فى محاولته فرض تصور ضيق ماضوى على مجتمعات معاصرة» تسعى إلى بناء دول مدنية تحترم الإنسان. لذا فإن المواجهة معه ينبغى أن تكون فكرية ثقافية بالدرجة الأولى، لا مجرد أمنية. يبقى أن يقال: أن هذا الكتاب هو مقاربة فكرية مهمة وضرورية فى معركة الوعى، تلك المعركة التى لا تزال فى بدايتها، فهو لا ينخرط فى خطاب عدائى أو هجومى، بل يعتمد على منهج تفكيكى يروم كشف الجذور الفكرية للمأزق السلفى، موضحًا كيف يعيد هذا التيار إنتاج رؤية العالم بما يتنافى مع روح العصر ومع تطلعات الإنسان العربى إلى بناء دولة حديثة عادلة. وفى زمنٍ تتعاظم فيه الهويات القاتلة، ويصعد فيه العنف باسم الدين، تمثل مثل هذه الدراسات أداة ضرورية لبناء وعى نقدى جديد، ولرفد التيار التنويرى العربى بمزيد من الجرأة الفكرية والحس التاريخى العميق. يبقى أن المعركة ضد الماضوية السلفية ليست معركة «نصوص» فحسب، بل هى فى الجوهر معركة من أجل العقل والحرية. — معركة تحتاج إلى أن يخوضها المثقفون، والمفكرون، وصناع الوعى، من دون خوف أو مساومة.