قبل عقدين من الزمان، لم يكن مصطلح «الذكاء الاصطناعي» يتجاوز حدود الخيال العلمي أو يظهر إلا في مشاهد سينمائية تتخيل عوالم تسيطر عليها الروبوتات والآلات الناطقة، بل كان مجرد تصور أن تحاكي الخوارزميات عقل الإنسان أمرًا مثيرًا للسخرية أو الدهشة. لكن العالم تغيّر، وتحوّلت تلك التخيلات إلى وقائع ملموسة تلعب اليوم دورًا محوريًا في إدارة الاقتصادات، وصياغة السياسات، وتوجيه حركة الابتكار، بل والتحكم في مصائر الشعوب. لم يعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا على الهامش، بل أصبح أداة مركزية لإعادة تشكيل قواعد اللعبة عالميًا، ووفقًا لتقارير مؤسسة «ماكينزي»، فإن هذه التكنولوجيا قادرة على أن تضيف ما يصل إلى 13 تريليون دولار للاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو رقم يوازي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. هذا التحول جعل من امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي قضية سيادة وطنية، ومقياسًا لمكانة الدول في النظام العالمي الجديد. في قلب استراتيجية مصر التنموية إدراكًا لهذه المعادلة، بدأت مصر منذ سنوات في صياغة رؤيتها الخاصة نحو المستقبل الرقمي، واضعة الذكاء الاصطناعي في قلب استراتيجيتها الوطنية للتحول الرقمي والتنمية المستدامة. وكان إطلاق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في مايو 2021 محطة فاصلة في هذا المسار، حيث استهدفت المرحلة الأولى منها بناء القدرات البشرية وتطوير البنية التحتية الرقمية، مع التركيز على قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والزراعة. ومع انتقال الدولة إلى المرحلة التالية من هذه الاستراتيجية خلال الفترة من 2025 حتى 2030، تتسع الرؤية لتشمل توطين التكنولوجيا، وتحفيز البحث العلمي، وتطوير البيئة التشريعية، بما يتيح لمصر أن تتحول من مستهلك للتقنيات الذكية إلى منتج ومصدر لها. تبني أخلاقيات الذكاء الاصطناعي كأولوية سياسية وفي خطوة تعكس إدراكًا مبكرًا للتحديات الأخلاقية المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي، أعلنت مصر في نوفمبر 2021، ضمن 193 دولة، تصديقها على الوثيقة العالمية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي أصدرتها منظمة اليونسكو. هذه الوثيقة تمثل أول محاولة دولية لضبط مسارات هذه التكنولوجيا من منظور إنساني، وتدعو إلى احترام الخصوصية، ومكافحة التحيز، وضمان العدالة الرقمية. وقد تبنت مصر هذه الوثيقة كإطار مرجعي لصياغة سياساتها المحلية في هذا المجال. المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي العقل المنظم للمرحلة المقبلة لتنفيذ هذه الرؤية، أسست الدولة المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي، الذي يضم في عضويته وزارات متعددة وممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني. يضطلع هذا المجلس بتنسيق الجهود بين الجهات المعنية، وتوجيه الاستثمار في التقنيات الذكية، وقياس أثر السياسات على أرض الواقع، ليكون بمثابة العقل المركزي المنظم لمنظومة الذكاء الاصطناعي الوطنية. مصر على خريطة الذكاء الاصطناعي الدولية لم تتوقف مصر عند السياسات، بل سعت لترسيخ حضورها على الخريطة الدولية. فقد أعلن الدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، خلال مشاركته في قمة باريس للذكاء الاصطناعي في فبراير 2025، أن مصر قطعت شوطًا مهمًا نحو التحول إلى مركز إقليمي في هذا المجال. وتم إنشاء مركز تميز للذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية، كما تم دمج مناهج الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات في أكثر من خمس عشرة جامعة، إلى جانب تدريب ما يزيد على 120 ألف شاب على المهارات الرقمية في غضون أربع سنوات، بالشراكة مع شركات عالمية مثل مايكروسوفت، هواوي، وIBM. كما شارك الوزير في فعالية إطلاق "مركز الذكاء الاصطناعي للتنمية المستدامة" الذي يأتي ضمن مبادرة الرئاسة الإيطالية لمجموعة الدول السبع «G7» لعام 2024، وذلك بمقر برنامج الأممالمتحدة الإنمائي «UNDP» في العاصمة الإيطالية روما. ويأتي إطلاق المركز بشراكة وثيقة بين إيطاليا وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ويستهدف تسريع وتيرة التحول الرقمي في القارة الأفريقية وتسريع التنمية الصناعية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، تماشيًا مع استراتيجية الاتحاد الأفريقي. وقد تم اختيار 14 دولة أفريقية لبدء التعاون معها، من بينها مصر. تتمثل أهداف المركز في تحقيق زيادة كبيرة في إمكانية الوصول إلى الحوسبة لمبتكري الذكاء الاصطناعي في أفريقيا، وعلي رأسها مصر وتطوير بنية تحتية مستدامة في البلدان ذات الأولوية، بالإضافة إلى إنشاء شراكات بين المشاريع الأفريقية والشركات الإيطالية من مجموعة السبع، وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي لمعالجة تحديات التنمية، فضلًا عن نمو تدفق الاستثمار إلى منظومة الذكاء الاصطناعي الأفريقية. الاستراتيجية المصرية تدخل طور التنفيذ العملي أكد الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن النسخة الثانية من الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي تتضمن عدة محاور، تستهدف بناء القدرات الرقمية، وحوكمة استخدام الذكاء الاصطناعي، وتشجيع الابتكار والبحث والتطوير، وتعزيز التعاون الدولي في هذا المجال. وأضاف أن هذه السياسات تجلت آثارها في تطبيقات عملية تبنتها عدد من الوزارات، أبرزها وزارة التموين التي بدأت استخدام أنظمة تحليل ذكي لبيانات الدعم لضمان عدالته، ووزارة الصحة التي اعتمدت على نماذج تنبؤية لرصد مؤشرات تفشي الأمراض المزمنة، ووزارة التعليم التي استخدمت أدوات تصحيح وتحليل أداء الطلاب بالذكاء الاصطناعي. أما منصة «مصر الرقمية»، التي تضم أكثر من 200 خدمة حكومية، فتمثل مثالًا حيًا على توظيف هذه التكنولوجيا في تحسين جودة الخدمات العامة، وتسريع وتيرتها، وتقليل الفاقد البشري والزمني. تحفيز بيئة ريادة الأعمال والشباب أشار الوزير إلى أنه على صعيد الابتكار، شهدت مصر طفرة لافتة في عدد الشركات الناشئة العاملة في الذكاء الاصطناعي، والتي ارتفعت من 14 شركة فقط في عام 2020 إلى أكثر من 90 شركة في عام 2024، تعمل غالبيتها في مجالات مثل الرؤية الحاسوبية، وتشخيص الأمراض، وتحليل النصوص، والأمن السيبراني. وتقدّر تقارير دولية حجم الاستثمار العام والخاص في هذا القطاع في مصر بأكثر من 1.5 مليار جنيه خلال عام 2023 فقط. وقد بدأت بعض المبادرات بالفعل في تهيئة بيئة الابتكار، حيث تم إطلاق حاضنات أعمال متخصصة مثل «فلك» و«فيوجن»، إلى جانب تنظيم مسابقات سنوية لأفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتوفير تمويل ميسر للمشروعات الناشئة، فيما تتولى هيئة «إيتيدا» تنسيق الجهود بين الجامعات والشركات ودعم فرق البحث. تعزيز التعاون الإقليمي في الذكاء الاصطناعي إقليميًا، تسعى مصر إلى تعزيز التعاون العربي والأفريقي في هذا المجال، وقد أسهمت في تأسيس الشبكة العربية للذكاء الاصطناعي تحت مظلة جامعة الدول العربية، كما اقترحت إنشاء بوابة بيانات عربية موحدة، ووقّعت اتفاقيات تعاون مع عدد من الدول الشقيقة، من بينها الإمارات وتونس والسعودية، بهدف تبادل الخبرات وتوحيد الأطر التنظيمية. البيئة القانونية والمجتمعية شرط لنجاح الأستراتيجية يرى عدد من الخبراء أن نجاح التحول الرقمي لا يتوقف على التكنولوجيا فقط، بل يعتمد أيضًا على البيئة المجتمعية والقانونية، وأكد الدكتور محمد عزام، خبير تكنولوجيا المعلومات والمدير التنفيذي للشعبة العامة للاقتصاد الرقمي، أن المستقبل للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وأضاف أن الاستراتيجية الوطنية تمثل فرصة لتوظيف التقنيات في مواجهة التحديات المجتمعية، مع إطلاق المزيد من البرامج التدريبية، وتوفير بنية تحتية حوسبية للجهات الحكومية والخاصة والشركات الناشئة. وأوضح أن مصر من أوائل الدول التي أكدت على أهمية مسئولية الذكاء الاصطناعي، وضرورة وضع ضوابط حاكمة له، مشددًا على أهمية الاستخدام المسئول. الوعي المجتمعي ضرورة للتحول الحقيقي من جانبه، يرى الدكتور هاني سليمان، أستاذ نظم المعلومات بجامعة القاهرة، أن التحدي الأكبر يتمثل في قدرة المجتمع على تقبل هذا التغيير، ويدعو إلى إطلاق استراتيجية وطنية للتوعية المجتمعية، تشارك فيها وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية، لردم الفجوة بين المواطن العادي وهذه التكنولوجيا الصاعدة.