لم يسأل الكثير من أثرياء هذه البلاد أنفسَهم أسئلةً مهمة: أين يقضى ليلتَهم هؤلاء الباعة المقيمون على الأرصفة وفى نهر الطريق، والآخرون الجائلون لأنهم لم يجدوا موطئاً لقدم على الرصيف أو الطريق، ومروجو السلع والمتسكعون بالمناديل والفل فى إشارات المرور وماسحو الأحذية والشحاذون وأطفال الشوارع والهائمون يلتقطون كسرات الخبز من أكوام القمامة؟ وهل من الممكن لأحد أن يتوقع إلا أن يكون مأوى هؤلاء فى هذه الجحور على أطراف المدن بلا توصيلات مياه شرب ولا شبكات صرف صحى ولا طرق معبدة ولا مدارس ولا مستشفيات ولا مخابز ولا منافذ بيع للسلع الأساسية؟ وكيف ينتقلون يومياً ودون مواصلات عامة بين مبيتهم وبين مصادر أرزاقهم؟ وكيف يجدون مخرجاً عندما تنقطع سبل الرزق؟ هل هناك جهة ما تمنحهم قروضا أو تسهيلات أو منحاً؟ وما هى نسبة الأمية فى أوساطهم؟ وهل يلتحق أبناؤهم بالمدارس فى السن القانونية؟ وهل يواظبون على الانتظام؟ وما هى نسبة المتسربين؟ وهل يصطحبون أطفالهم دائماً معهم حيث يعملون؟ وأين يودعون الرضع وهم فى محنتهم اليومية فى البحث عن لقمة العيش؟ وهل هنالك ما يمكن أن يوفر فى المنزل للزوج والزوجة خصوصية عن أطفالهم؟ وللأسف، فإن الأوضاع تفاقمت أكثر بعد أن اندلعت الثورة فى يناير 2011، بعد أن صار البلطجية يرتعون فى هذه البيئة فى أجواء الانفلات بسبب غياب مؤسسات الدولة، وخاصة أجهزة الأمن التى باتت تولى الاهتمام للإرهاب على أيدى السياسيين، وتكاد لا تهتم بالبلطجية إلا إذا عملوا بالأجر لصالح بعض السياسيين، وهو المجال الذى اقتحم الحياة السياسية على أيدى جماعة الإخوان! أما البلطجة ضد المهمشين فى العشوائيات والتى أحالت حياتهم إلى جحيم حقيقى، فتكاد أجهزة الدولة أن تختفى، صارت الإتاوات تُفرَض جهاراً نهاراً على من لا يملكون قوت يومهم، وصار البلطجية يدخنون المخدرات ويتنطعون يقطعون الطريق ويتحرشون بالنساء بصورة إجرامية تصل أحياناً إلى الاختطاف والاغتصاب، وباتوا يتعمدون إذلال هؤلاء المطحونين وإهانة ما تبقى لهم من كرامة إنسانية! وحتى تكتمل المأساة فقد أضيف إلى هذا البؤس المفارقة الصارخة فيما هو موجود على الضفة الأخرى للحياة ويخرق عين المحرومين الغاطسين تحت مستوى الحد الأدنى، حيث الأثرياء لا تؤرقهم هذه القنبلة الموقوتة! فكيف ينظر هؤلاء البؤساء إلى سكان الأحياء الراقية؟ وإلى ما يمكن أن يتراءى لهم عنهم من أسوار عالية وأبواب مُحكمة الإغلاق وديكور خارجى لمنازل أنيقة، ومن مستوى وأسلوب حياة مترفة يرونه فى إنفاق واسع من محلات فاخرة، وأناقة فى الملبس، وسيارات فارهة، وأطفال منعمين، ومن فى رفقتهم من خدم ومربيات؟ والحقيقة التى لا يمكن إنكارها أن هذا النمط من العشوائيات كان موجوداً منذ سنوات عديدة، ولكن الحقيقة أيضاً التى لا يمكن المجادلة فيها هى أن هذه العشوائيات امتدت واستفحلت بشكل سرطانى ليس لتحيط بالقاهرة وحدها، وإنما صارت أيضاً حول كل المدن فى مصر! وكان غريباً أنها لم تتفاقم إلا تحت نظام مبارك الذى كان أكثر حظاً من كل من سبقه، بعد أن تحققت معاهدة السلام مع إسرائيل وتوقفت الحروب وانهمرت مساعدات خارجية، وتراجع التوتر الخارجى إلى حد كبير وفَر أجواء أفضل بما لا يُقارَن مع ما كان متاحاً فى السابق للاهتمام بالشأن الداخلى بالتنمية الحقيقية، ولكن سارت سياسة مبارك فى اتجاه آخر! سؤال آخر: هل هناك اعتمادات مالية كافية وكوادر علمية مدربة فى مراكز الدراسات تسمح أعدادهم ومستواهم العلمى بالقيام بأبحاث ميدانية علمية جادة عن هؤلاء؟ وهل رصدت بدقة تفاصيل حياتهم؟ وهل سجلت رؤيتهم لواقعهم وفهمهم لحياة الآخرين؟ وهل رصدت توقعاتهم لمستقبلهم ومستقبل البلاد؟ وإذا ما كانوا يحلمون بحياة أفضل؟ وكيف تكون هذه الحياة فى هذه الأحلام ؟ وهل هناك أمل فى أن تتحقق، وكيف؟ وأيضاً، كيف يزوجون بناتهم؟ ولمن؟ وكيف يتولون تجهيزهن؟ وهل عملت هذه المراكز على توصيل هذه الدراسات وتوصياتها إلى صانع القرار؟ المؤكد أنه ليس هناك مَن هو مسئول فى هذا البلد عن توفير العمل لهؤلاء، ولكن لماذا ليس هناك جهة ما تتحمل مسئولية تدريبهم على مهارات مهنية وعلى تطوير هذه المهارات، حتى يكون فى أياديهم أداة تساعدهم فى البحث عن عمل؟ لقد قامت الثورة فى الأصل لتنهض بحياة الشعب وخاصة الفقراء منهم، وكان لشعار العدالة الاجتماعية أثره فى جذب قطاعات كثيرة تحمست وشاركت فى مسيرة الثورة، وكل الشواهد تؤكد أن أعداداً كبيرة من هؤلاء انضموا إلى تظاهرات الثورة فى بعض مراحلها، وكانت تعليقاتهم المعلنة فى الصحافة وعلى التليفزيون واضحة ومباشرة يُستَخلَص منها أنهم صدّقوا شعاراتها عن السعى للاهتمام بالفقراء. ولكن أثرياء هذه البلاد لم يدركوا بعد أنهم أول المستفيدين من نجاح جهود محاربة الفقر، خاصة الفقر المدقِع المهين لصاحبه، والقضاء على أسبابه وأعراضه! لقد عاش الفقراء مع الثورة تجربة لم يعهدوها عندما كان الأمل يداعب الخيال بأن تصير الحياة إلى الأفضل، وأن تتحقق المساواة على الأقل فى توزيع عادل على جميع المواطنين لدخول الجباية من الضرائب والجمارك وقناة السويس، وربما تكون إرادتهم أشدّ من المثقفين الذين أحبطهم سرقة الثورة مرة بعد مرة، وربما يخرجون لاستعادتها، ولكن على طريقتهم، وهم مدفوعون بعزيمة من ليس لديه ما يخسره!! [email protected]