لماذا لا تُبدِى الإدارات الأمريكية المتعاقبة اهتماما يُذكَر بتحذيرات عدد من كبار المفكرين الأمريكيين من مخاطر النزوع نحو تبنى عقلية وسياسة الامبراطوريات البائدة، التى لا تعتمد الحوار مع الأطراف الأخرى على الخريطة السياسية، ولا تراعى مصالح هذه الأطراف عند اتخاذ القرار وعند التحرك العملى على الأرض؟ وكيف يجتمع على هذا الحزبان الكبيران، فلا تبدو أمارات جادة على التغيير فى السياسة حتى مع تبادل السلطة فيما بينهما؟ ويضرب بعض هؤلاء المفكرين أمثلة من التاريخ تهاوت فيها امبراطوريات كبيرة كانت تبدو شامخة، لكنها عجزت عن الصمود أمام تكتلات قوية تشكلت لرد الجبروت الذى كانت تفرضه هذه الإمبراطوريات تحت غواية القوة التى أوهمتها بأنه لا يمكن لأحد أن يتصدى لها. ووسط صيحات الفرح فى المؤسسات الأمريكية الرسمية والشعبية والإعلامية بانهيار الاتحاد السوفيتى وانفراط الكتلة الشرقية، اختلف رأى بعض العقلاء مع الموجة السائدة، وقالوا إن فى هذا إنذاراً لما سوف يلحق بأمريكا. هذه التحذيرات تنتمى لمدارس متعددة، بعضها يُراعى مصالح أمريكا بأكثر مما تفعل الإدارات الحاكمة، لأنها تقوم على إدراك أن النظام الدولى، الذى وُضِعتْ قواعده الأساسية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد متوافقاً مع الأوضاع العالمية الآن التى تختلف إلى حد كبير عما كان عليه الأمر قبل نحو 70 عاماً، وهم يعلمون أنه لا فكاك من الإذعان إلى تغيير القواعد التى لا يزال لأمريكا فيها نصيب الأسد حتى الآن، لذلك يريدون توفير الأجواء لأن تستمر هذه القواعد لأطول وقت ممكن، حتى تتمكن أمريكا من التهام أكبر القضمات من النظام السائد قبل أن يتغير، لأنهم يتوقعون أن لا تكون لأمريكا فى النظام الجديد نفس المزايا، ويرون أن الخطر الكبير على أمريكا يأتى من سياسة الاستفزاز الذى تقوم به أمريكا نفسها لكثير من الأطراف، وهو ما يخشون أن يكون سبباً فى الدفع بوتيرة فرز المواقف بما يترتب عليه تجميع المتضررين من هذه السياسة، وأن هذا وارد الحدوث فى وقت قصير نسبيا. من أكثر السياسات استفزازا أن القواعد المعمول بها، والتى تتسبب فى خسائر لأطراف عدة، لا تتردد الإدارات الأمريكية فى هتكها لأنها ترى فيها كابحا على المضى قدما فى فرض المزيد من الهيمنة وجنى مكاسب أكثر، وهو ما يرفع من الخسائر التى تتكبدها الأطراف الأخرى. انظر إلى السيطرة شبه الكاملة من أمريكا على القرار الدولى، الذى يشكل ما يسمونه الشرعية الدولية التى تطالب أمريكا الجميع بالامتثال لها، إلا أنها لا تتردد فى ازدراء مؤسسات الشرعية وقراراتها، واتخاذ قرارها الخاص الذى قد يتعارض تماماً، مثلما حدث فى غزو العراق ثم تدميره. كما أنها تنتهك قرارات الشرعية، بإقامتها علاقات تعاون وطيدة مع جماعات إرهابية تهدر الحق فى الحياة، وتزدرى أصحاب الأديان الأخرى، بل وتعود بالبشر إلى العصر الحجرى، مثل علاقتها المشينة مع تنظيم داعش. بل إنها تُصرّ، بكل الوسائل القانونية وغير القانونية، على حرمان الحكومة الشرعية فى ليبيا من الحصول على السلاح الضرورى لممارسة مسئولياتها تجاه شعبها والعالم بمقاومة الإرهاب الدموى على أرضها، فى وقت يقوم أتباع أمريكا الإقليميون، تحت بركتها، بتسليح الأرهابيين بأسلحة لا تتوافر لجيوش نظامية فى بعض الدول، منها مضادات للطائرات والدبابات، وأسلحة كيماوية محظورة، وأجهزة تنصت على أعلى درجات التطور! كما تغضّ أمريكا الطرف على انتهاك آخر بالسماح لتركيا بشراء البترول من داعش، بما يوفر له موارد ضخمة ينفق منها على التسليح والتجنيد وكل ما يزيد من قوته، مقابل أن يذهب هذا البترول إلى إسرائيل. هذه التناقضات فى السياسة الأمريكية هى أكبر من أن تُحصَر فى مقال، كما أن الظاهر منها يكفى للتفكير الجاد فى اتخاذ مواقف مختلفة عما هو معمول به، من باب حماية النفس من هذه السياسة التى باتت أخطارها شديدة الوطأة، خاصة بعد أن تخطت الأهدافَ القديمة التى كانت تكتفى بتحقيق مصالح مادية لأمريكا وحلفائها إلى أن صارت سبباً مباشراً فى خلق أخطار مخيفة تتهدد مصالح بعض الدول ومواطنيها، إلى حد إعادة التاريخ إلى عصور الإبادة الجماعية وإلى القتل ذبحاً ورجماً، وإلى عقوبات بتر الأطراف والجلد، وإلى فرض الجزية على فئات وطوائف، وإلى هدم دور عبادة، وإلى أسر الأطفال وسبى النساء والاستعباد الجنسى، وغير ذلك. وأمّا التناقض الكبير فقد تمثل فى الاستهتار باختيار الشعوب الذى هو أهم بنود الديمقراطية التى تقول أمريكا إنها تسعى لنشرها فى العالم! حسناً، إذا لم يكن هنالك ما يدعو إلى الاهتمام بإنقاذ الشعوب من داعش وشركاه، فإن نظم الحكم صارت مهددة، لا خلاف فى ذلك بين إمارات وممالك وجمهوريات، ولا بين ديكتاتوريات ونظم تسعى لتأسيس الديمقراطية، ولا بين كبار الحكام وصغارهم، ولا بين المدنيين وقوات الجيش وأفراد الشرطة، ولا بين الأثرياء والفقراء..إلخ ومع كل هذه المهالك، فإن العجب من أن يلتزم البعض بما تراه أمريكا واجب الاتباع حتى وهى تحلّ نفسها منه! ولكن، وحتى مع التفاؤل بسرعة تغيير القواعد، فإنه لا يمكن تأجيل مواجهة الخطر الآنى الذى يتهددنا، وهو ما يلزم معه، أولاً، القرار الوطنى بعدم الخضوع لتفسيرات أمريكا لما تسميه الشرعية الدولية، وإنما أن يكون لنا تفسيراتنا التى تجيز التصدى لكل من يرفع السلاح، سواء من الداخل أو على الحدود، كما يلزم أن يكون لنا موقف مع كل من يحرّض على الإرهاب، ومع من يوفر له المأوى والتمويل والمنبر. هناك احتمال يجب أن يُؤخَذ بجدية، برغم ما فيه من شرّ وبشاعة، وهو أن ما تصفه كثير من الصحف السيارة وأعداد من الباحثين بأنه فشل لأمريكا فى أفغانستانوالعراق وسوريا وغيرها، باعتبار أن أمريكا لم تحقق ما كانت تعلنه عن أهداف تأسيس الديمقراطية..إلخ، قد لا يكون فشلاً إذا كانت أمريكا تخطط لأشياء أخرى غير ما تعلنه، أى أنها كانت تعمل على تدمير هذه البلاد بالفعل، وهو ما يمكن القول معه إنها نجحت وفق خطتها! لاحظ أيضاً أن أمريكا تقول كلاماً عن قيادتها لحملة لمواجهة داعش، ولكنه زاد قوة بمراحل منذ بدء هذه الحملة! [email protected] لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب