لن يكون مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية خارجاً عن توقعات من سياق السياسة الثابتة لأمريكا عبر عقود فى المنطقة، وهى سياسة لا تتغير فى جذورها ومبادئها بتغير الحزب الحاكم. لذلك ينبغى طرح الأوهام جانباً والاستعداد للاحتمالات الأكثر توقعاً من غيرها، مع مراعاة أن التغير الحادث هذه الأيام، والمرشح لمزيد من التأصيل، هو فى السياسة المصرية، التى تسعى لاستقلال القرار الوطنى من تأثير كل الأطراف الخارجية، وهو الاتجاه الذى تُبدِى أمريكا حتى الآن تشدداً فى مواجهته. ومن الواضح أن أمريكا فى هذا العهد لا تستثنى أحداً من إمكانية المواجهة، حتى روسيا، وأن سياستها تتجه إلى التصعيد الذى لا يراعى فى كثير من الحالات خصوصية كل حالة، بل أنها لا تتردد فى تطبيق المقاطعة، وتدفع حلفاءها إلى المشاركة فى هذه السياسة. وقد يكون من أغرب ما تقترفه السياسة الأمريكية فى منطقتنا هو تجاهلها الكثير من توصيات ومقترحات أفضل مراكز الدراسات الأمريكية، وفيها خبراء على أعلى مستوى، ثم تتبنّى الإدارة سياسات أخرى قد تصل أحياناً إلى حدّ التضارُب مع ما يطرحه خبراء الباحثين! وهو ما ترى تجلياته فى تدمير العراقوسوريا وليبيا، ودعم الجماعات الإرهابية مثل الإخوان وداعش و غيرهما مما تعانى منه كل دول المنطقة هذه الأيام، وتخسر أمريكا فيه الكثير، ولا يحقق المكاسب سوى إسرائيل! حذّر كثير من هؤلاء الخبراء من أن تدمير الدول العربية سوف يترتب عليه مخاطر جمة يصعب حصر مخاطرها المستقبلية، كما أن آثارها تمتد إلى حيث لا يمكن التنبؤ به، وفى كل الأحوال سيكون من المستحيل السيطرة على كافة سلبياتها. وتوقعوا أن يسفر فى العراق عن فتح مجال حيوى لنظام الحكم فى إيران، التى تصنفها أمريكا عدواً رئيسياً، بما يمنحها حرية أكبر، وهو ما حدث. وأن الفوضى ستعم سوريا وتتسرب منها إلى بقية الإقليم، بما لا يمكن التحكم فيها، وهو ما تتجلى أحداثه الآن بكل وضوح. وأن تدمير ليبيا يؤدى إلى مخاطر على أوروبا أقلها أن تصبح معبراً للهجرة غير الشرعية من إفريقيا جنوب الصحراء، ووقع هذا وأسوأ منه! ورغم أن البراجماتية هى المنطلق السامى فى السياسة الأمريكية، إلا أن خطابها الرسمى والدعائى يعتمد مصطلحات لا تتماشى مع هذه المرجعية الفلسفية، مثل ما يرددونه كثيراً عن الصداقة مع الشعوب. وحتى هذه الصداقة المزعومة، فلن تجد لها، مهما أمعنت الدراسة، أمارة واحدة عبر التاريخ الممتد فى علاقتها مع مصر. وإذا نحيت جانباً عهد عبد الناصر الذى كان التصادم فيه سافراً لخلافات واضحة، فقد كان غريباً أن تستمر أمريكا على عهدها فى زمن قيل إن الصداقة عنوانه! فكلما كان مبارك يتقدم نحوهم خطوة يُقدِّم فيها تنازلات أكثر، كلما كانت أمريكا تتخذ قرارات عقابية، كانت تُلوِّح فيها دائماً بتخفيض المعونة، ثم تخفيضها فعلياً أكثر من مرة، واعتمادها لخطاب خشن فى النقد يصل أحياناً إلى حدّ الامتهان! كان الأمريكيون يدركون، بمنطق البراجماتية المباشر، أن فهم مبارك المحدود جعله يظن أن احتياجه لهم أكبر من احتياجهم له، لضمان استمراره فى الحكم ثم توريث الحكم إلى نجله، وكان تقدير إدارتهم أن يدَهم هى العليا فى هذه المعادلة، وأنهم يستطيعون أن يتحصلوا منه على المزيد! ولم يضعوا الشعب المصرى فى اعتبارهم! بل إنهم لا يزالون يتجاهلون الشعب إلى الآن، حتى بعد تحقيقه للمعجزة وخلعه لمبارك، وحتى بعد نجاحه فى الإطاحة بحكم الإخوان وإدانة عصرهم والدفع بهم إلى قفص الاتهام. ولكن أمريكا باقية على إصرارها على إعادة الإخوان للساحة السياسية، وعلى فرض قيود على تسليح الجيش بهدف تعجيزه عن التصدى لإرهاب الإخوان وحلفائهم! بل حظر السلاح عن الحكومة الشرعية فى ليبيا، مما أفسح المجال لإرهاب داعش، الذى صار تهديداً حقيقياً لمصر، حتى من قبل جريمته البشعة بذبح 21 مواطناً مصرياً! ووفرت أمريكا الدليل بعد الدليل عن أنها ستستمر فى مزيد من التصعيد فى هذا الاتجاه، خاصة بعد أن قامت مصر بعمليتها ضد داعش دون أن تُخطرها، فجاءت التحفظات الأمريكية، بدعوى الخروج على الشرعية الدولية (!) واستصدرت قراراً من منظمة العفو الدولية بإدانة وقوع قتلى مدنيين من الشعب الليبى ضحايا للعملية المصرية! والمؤكد أن طاقتنا تتبدد من غير طائل إذا خضنا فى التذكير بأن أمريكا هى التى لا تأبه للشرعية الدولية، ولا لوقوع المدنيين ضحايا لغاراتها هنا وهناك! إن استقلال القرار المصرى حلم وطنى قديم يحظى بإجماع لا يشذ عنه وطنى من مؤيدى الحكم أو من معارضيه. وكان من بدايات تجليات تبنى سياسة الاستقلال رفض المشاركة فيما يُسمّى التحالف الدولى الذى تقوده أمريكا بزعم محاربة داعش، لغموض الهدف والوسائل، وللريبة التى تعم المشروع برمته. وكان هذا مثار غضب أمريكا التى تعودت على سرعة استجابة كل من نظام مبارك وجماعة الإخوان. ثم أخذ الغضب الأمريكى فى الازدياد مع كل خطوة على طريق استقلال القرار، مع صفقة السلاح الروسى، ومع عقد شراء الطائرات الفرنسية، ثم جاء مؤخراً النداء المصرى لتكوين قوة عربية يُناط بها العمل على تحقيق أمن الدول العربية. ومن المتوقع أن تتبدى علامات هذا الغضب أكثر فيما سوف تقوم به أمريكا فى تصويت الجمعية العامة على قبول مصر عضواً غير دائم فى مجلس الأمن، خاصة بعد أن حصلت مصر على موافقات عربية وإفريقية ومن عدد من الدول الأخرى، وهو ما تراه أمريكا خروجاً عن الطوع! وتخشى منه أن يصبح لمصر منبر مؤثر يُعزِّز دورها الإقليمى والدولى. فما بالك إذا وضعتَ فى الاعتبار ما يتمناه بعض المتفائلين فى مصر من أن هذا القبول فى مجلس الأمن سوف يمهد لها أن تصير عضواً دائماً عندما يُفتح المجال لمناقشة تطوير الأممالمتحدة. الواضح أن المشكلة مع أمريكا مرشحة للتصعيد، لأن مسار الاستقلال هو اختيار أصيل للشعب نادى به فى الثورة ضد مبارك، ويدعمه الآن الرئيس والحكومة، ومن الناحية الأخرى، فإن أمريكا لا تخفى غضبها، كما أن إسرائيل تلعب وراء ستار!. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب