لماذا لا تتصاعد فى مصر الدعوة إلى المبادرة باتخاذ قرار الاستغناء عن المعونة الأمريكية إلا كردّ فعل لحظى على النوبات الدورية الأمريكية التى تطالب بحرمان مصر من المعونة أو بتقليصها؟ لماذا لا يُتخَّذ القرارُ المصرى فى حالة من الهدوء النسبى، أو الظاهر ليؤكِّد أنه مستند على رؤية وموقف لتلبية أحد مطالب الثورة بالاستقلال الوطنى وبإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم، وأن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بعد توفير أهم شروطه بالتحرر من هيمنة أى دولة أجنبية؟ وينبغى أن يتضمن هذا الإعلان معنى واضحاً عن الحرص على تحسين العلاقات وتطويرها مع أمريكا، الإدارة والشعب، مع الإفصاح عن أنه ليس فى مصلحة مصر معاداة أقوى دولة فى العالم، ولا فى السعى لكسب خصومة الشعب الأمريكى، وأنه فى مصلحة مصر قبل أن يكون ضد أمريكا أو غيرها. لقد صارت مسألة المعونة الأمريكية ماسّة بالكرامة الوطنية عندما يُطرّح الموضوع كل مرة فى أمريكا، ويتنافس فى التهديد بقطعها أو تخفيضها الكثيرون، سواء فى مجلسى الكونجرس أو فى الإدارة أو الصحف، برغم علمهم جميعاً بظروف إقرارها فى إطار معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل كعامل تحفيز على أن تكون مصر عنصر تهدئة فى الصراع العربى الإسرائيلى، كما أنهم يعلمون يقيناً أن العائد على أمريكا أكثر بكثير مما تستفيد به مصر، سواءً بتوفير فرص عمل للآلاف من الأمريكيين الذين ينتجون العينيات التى تحصل عليها مصر، حيث أن الشروط ألا تكون المعونة فى شكل نقدى، ثم مكاسب شركات النقل، الطائرات أو السفن التى تنقل هذه السلع، إضافة إلى أجور الخبراء الذين يُحتاج إليهم فى المشروعات التى يجرى تطبيقها وفق المعونة، إضافة إلى المزايا الأخرى التى تحصل عليها أمريكا فى الإسراع بالترخيص لبوارجها فى عبور قناة السويس والسماح للطائرات الحربية بالعبور فى الأجواء المصرية. وكل هذا إضافة إلى أهم البنود على الإطلاق بتوفير السلام لإسرائيل مع أكبر دولة عربية لا يمكن إبرام قرار الحرب دونها! وكان حرياً بالعقلية البراجماتية الأمريكية أن تُحسن حساب مصالحها المتحققة بفضل استمرار المعونة المتهافتة، التى جرى عليها التخفيض أكثر من مرة حتى صارت تشكل ما لا يزيد على 2% من الدخل القومى المصرى، بما يعنى أن إلغاءها كلها لن يكون له أثر ضخم على الأوضاع الاقتصادية فى مصر، كما أنه سوف يُحِلّ مصرَ من قيود الاتفاقية ويسمح لها بتغيير بنود أخرى، بما يحدث اضطراباً بعد استقرار دام لنحو أربعة عقود، وهو ما انتبهت لخطورته إسرائيل، عندما أعربت أكثر من مرة عن فزعها من طرح مبدأ تغيير قواعد السلام مع مصر. ومن الغرائب الأمريكية أنها لم تحرص على إبداء الصداقة الحقة مع مصر إلا فى التصريحات الدبلوماسية من بعض السياسيين المتمرسين، برغم أن الرؤساء المصريين المتتابعين، السادات ومبارك ومرسى، كانوا الأكثر تعبيراً عن الهوى لأمريكا، بل إنه من الصعب أن يأتى على حُكم مصر من يكون فى مقدوره التعبير بمثل ما فعلوا والالتزام بمثل ما قاموا به لمصلحة أمريكا، حتى إذا أراد! بل إن أمريكا دأبت على مناوءة المطالب الشعبية للمصريين بتأييدها الحكام المستبدين والفاسدين والفاشلين، بل إنها باركت مشروع توريث الحكم من مبارك إلى نجله ضد إرادة الشعب، كما كان لها موقف سلبى تجاه ثورة 25 يناير، ولم تهدأ إلا بوصول الإخوان إلى الحكم، ثم كان لها الموقف الغريب فى رفض اختيار الشعب الإطاحة بالإخوان بعد أن تبينت خطورتهم على مستقبل البلاد وعلى ترابها وأمنها الوطنى، بعد أن عانى الشعب فشلهم. وحتى الآن فإن لأمريكا يداً فى كل الأخطار التى تهدد مصر، لأنه ليس من الممكن أن تتخذ قطر خطوة واحدة إلا بمباركة أمريكية، إذا لم تكن بأوامر أمريكية، كما تسربت أخبار عن دورها فى زرع تنظيم داعش، بعد أن اعترف مسئولوها الكبار بأنهم هم الذين اخترعوا تنظيم القاعدة، وتركت التنظيمين يعيثان خراباً وإرهاباً ماداما لا يهددان أمريكا مباشرة، كما أنه من الصعب افتراض أن تكون أمريكا بعيدة عن سد النهضة فى إثيوبيا ليحبس المياه عن مصر ويضعها فى مأزق لم تمر به عبر تاريخها المديد! وكان غريباً أن تقترف أمريكا كل هذا بالتوازى مع شعارات الصداقة مع مصر، ودون أدنى التزام منها بوعودها فى المساعدة بعد معاهدة السلام! إن مبادرة مصر بالاستغناء عن المعونة الأمريكية يضع الأمور فى سياق لا تناقض فيه، ثم إن اعتماد مصر على سياسة الانفتاح على العالم جدير بأن يضعها على الطريق الذى يليق بتاريخها وبوعود ثورتها، ويُعزز من انطلاقها فى سياستها الدولية متحررة من قيود التبعية، ومحققة لمطالب وتطلعات شعبها. إن توطيد علاقات مصر مع روسيا خطوة مهمة على طريق هذا الاستقلال، كما أنه ينطوى على إشهار لهذا الاستقلال الذى يتحرر من الانقياد لقرار أمريكا وأوروبا بمقاطعة روسيا لأسباب خاصة بهم! إن العوائد الإضافية لقناة السويس فى عام واحد بعد مشروع التطوير تزيد على إجمالى المعونة لأكثر من خمسة أعوام، وسوف يشحذ قرار الاستغناء روح العمل فى مشروعات أخرى أكبر. الوضع مهيأ الآن للمبادرة باتخاذ قرار الاستغناء عن المعونة الأمريكية، أو أن يُطرح الموضوع للمناقشة خلال الانتخابات البرلمانية على أن يُعرَض لحسم أمره فى بداية عمل البرلمان الجديد، وسوف تكون المعركة الانتخابية آلة فرز جبارة لمواقف المتنافسين على كراسى البرلمان. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب