الحلقة الأولى وكأنه لم يرق لهما أن يتركا الساحة بهدوء.. كلاهما فنان، وكلاهما عاش ومات، محلقًا بأجنحة خفاقة، فوق مدن الحزن العاتية.. سمير عبد المنعم، فنان الكاريكاتير، الملتزم بقضايا وطنه، المهموم بأتراحه، والذي رحل قبل عام، ينعي اليوم، في ذكرى رحيل ابن عمته "أحمد زكي"، الذي رافقه رحلة الطفولة والصبا، قبل أن يصبح كل منهما نجمًا فى مجاله.. ويسعد "البوابة نيوز" أن تنشر تكريمًا لذكراهما ما كتبه الراحل سمير عبد المنعم عن الراحل "البريء" احمد زكي.. على صوت القطارات واهتزاز الأرض من تحت عجلاتها، تعود حي بسيط يقع على أطراف مدينة الزقازيق أن يتعايش معها، تلك القطارات التي كانت تصول وتجول، وتسافر بعيدًا بركابها، والأخرى التي تهدأ وتسكن طلبًا للراحة في ورش السكك الحديدية. في هذا الجوار وهذه الجلبة كان يعيش أهالي حي الحسينية. حي يشكل معظم بيوته الصغيرة من الطوب النيء، قليل من هذه البيوت بطابقين وباقي البيوت بطابق واحد وتكاد أن تغوص داخل الأرض، شوارع الحي ضيقة أما حواريه فتكاد تلتصق بيوته المتقابلة ببعضها لقلة المسافة بينهما. تعتمد بيوت الحي في إنارتها على لمبات الجاز "الكيروسين"، وكذلك شوارعه حتى يبدو في الليل كمسبحة من الأضواء الخافتة، وتلك الأصوات الصادرة من البيوت ليلًا لا تخلو من الضحكات والقفشات والهمسات وأحيانا أحاديث يملؤها شجون يشاركها صوت الكروان بدعائه الشهير "الملك لك.. لك.. يا صاحب الملك". في الصيف كانت الأهالي تفترش الأرض أمام منازلها عصرًا، يلتفون حول صينية عليا سبرتاية وعدة القهوة والشاي يتحادثون ويتسامرون ويخرجون من صدورهم أنينهم وشكواهم مثلما يحدث في العلاج الجمعي الآن، حتى يرخي الليل أستاره فينفضوا ويدلفوا داخل بيوتهم تاركين الصمت وحده في الظلمة يقطعه من وقت لآخر نباح الكلاب. وكان سكان الحسينية قليل منهم أفندية موظفين في المعهد الديني والسكة الحديد والأسواق العمومية، أما السواد الأعظم من السكان فكانوا ينشغلون في المهن الدنيا. وكان بعض السكان يحولون شبابيك بيوتهم إلى بقالة صغيرة تبيع قراطيس الشاي والسكر واللب والجاز، ما إن تنقر بأصبعك على الشباك تفتح لك سيدة تبتاع منها ما تشاء. كان يحف بالحي سور حديد كبير يحيط بأرض مستطيلة تكاد أن تكون في مساحة الحي، يقام عليها سوق الثلاثاء وهو سوق يقام كل أسبوع يقطع سور السوق بوابة رئيسية وبعض الفتحات الصغيرة التي كنا ندخل منها، وكان في وسط السوق مظلتان كبيرتان الواحدة منهما عبارة عن جمالون من القرميد الأحمر مقام على مجموعة من الأعمدة الخشبية، وكانت بعرض السوق، وكان يستظل تحتها الجموع الكبيرة من الباعة والمشترين. كان يتوافد عصر يوم الاثنين تجار المواشي والجمال والخضار والفاكهة يفرغون تجارتهم وينصبون خيامهم ويرصون بضاعتهم وما أن ينتهوا يجلسون أمام الخيام وسط راليات النار يحتسون الشاي يدخنون الشيشة والجوزة. وكنا أطفال الحي نتسلل ليلًا إلى السوق نحضر حبل سميك مغمور في الطين ونربطه بخيط أسود ثم نمشي بجوار الرجال وجالسون مندمجون في السمر والحديث، ثم نحرك الخيط حركة لولبية حيث يهتز الحبل السميك ويصير كالثعبان فينقض الرجال على الحبل بالعصى والشوم فنضحك ونجري منصرفين. وعلى أطراف السوق بجوار السور الملاصق للحي كانت خيمة يصدر عنها أغان جميلة وموسيقى شجنية وتتوسطها إحدى الغوازي ترقص وتتلوى وتتمايل على آهات التجار وأصوات الموسيقى. ومع فجر اليوم التالي يبدأ السوق تتعالى الصيحات ونداء البائعين يعلنون عن بضاعتهم، ولغط المشتارين، وأصوات المواشي والجمال والدواب، كثير من الفصال وقليل من الشراء والتجارة شطارة، وموظفو الأسواق العمومية ينتشرون يحصلون الضرائب من التجار والبائعين منهم من يراوغ ومنهم من يماطل ويشاكس ومنهم من يدفع الضريبة مرتين إحداهما وهو يدخل السوق والأخرى وهو خارجًا منه لأن حظه لم يسعفه ويبيع دبته. وكان يلفت نظرنا تلك اللهفة لدى الفلاحين على الطعمية فبمجرد رؤيتها يأكلونها باستمتاع ويشترون منها لذويهم، وكانت بعض مطاعم السمك تستغل سذاجة بعض الفلاحين وتدس لهم قطعة أو أكثر من قشر البطيخ المقلي مع السمك ويناولها البائع للزبون صائحًا "كلوا من طيبات ما رزقناكم". وآخر اليوم ينتهي السوق وينفض عنه الناس، منهم من جبر ومنهم لم ينل من رزقه إلا القليل سبحانك يا موزع الأرزاق كان يحيط بالحسينية مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وعلى مرمى أبصارنا ترعة كبيرة يقطعها كوبري خشب، وكانت الأهالي يحذروننا من الاقتراب منها لأنهم كانوا يعتقدون أن الترعة بها نداهة تغرينا بالاقتراب منها ثم تغرقنا، ورغم هذا التحذير كانت هذه الترعة هي الملاذ الوحيد للأولاد ففي الحر القائظ كانت مصدر متعة ولهو دون أن يعلموا أنها ستكون مصد هلاكهم من البلهارسيا، فمنهم من تم علاجه منها وتم شفاءه ومنهم من لم يستطع فمات. وكان بعيدًا عن الترعة مصرف جاف عليه أطلال ساقية مهجورة يحيط بها مبنى ضيق قديم داخله بئر الساقية وكان الأهالي أيضا يحذروننا من الاقتراب منها لأنها مسكونة بالعفاريت. يصل الحسينية بباقي الأحياء المجاورة مزلقان الحسينية ومسئول عنه عم فصيح وهو رجل ضخم الجثة ذو شارب ولحية كثيفة وكان عم فصيح برجل واحدة يعتمد في سيره على العكاز يأتي مبكرًا صباح كل يوم من الحي المجاور مخترقًا شبورة الصباح الكثيفة متخذًا من فلنكات السكة الحديد دليلًا يصل به إلى المزلقان. ولقد رأى مزلقان الحسينية حوادث كثيرة أكثرها شيوعًا تلك التي تنتج عن انحشار رجل أحد المارة بين قضبان السكة الحديد أثناء تحويل اتجاه سير أحد القطارات وتكون النتيجة كارثة مروعة يروح ضحيتها إنسان أمام عينيك. وعلى المزلقان مسجد ومقام سيدي المبرز وهو شيخ لا نعرف عنه شيئًا سوى المولد الذي يقام له سنويًا حيث يلتقي فيه زواره ومريدوه من فلاحي القرى المجاورة والبسطاء من الناس طلبًا في بركة سيدي المبرز. وفي الليلة الكبيرة تقام حلقات الذكر وعلى أصوات المنشدين والدفوف يتمايل الناس يمينًا ويسارًا صائحين "الله.. الله" ويدخلون في نشوى صوفية وغيبوبة إيمانية، لا يقطعها سوى أصوات الباعة وطلقات النار والبومب الصادر من عجلات الحديد التي يتبارى الزائرين في دفعها محملة بالأثقال على قضيب يتجه إلى أعلى قليلًا وأيضا المراجيح ولاعبي الثلاث ورقات ولاعبي النار والرش كل هذا والناس محشورون في ساحة ضيقة ولا يخلو المولد ممن يدقون الوشم، ويجلس الزبون على دكة صغيرة عاري الصد يجز على أسنانه متحديًا الألم الناتج عن حفر الوشم على صدره أو زراعة بواسطة قلم من الصلب سنة مغموس في ماء النار يحركه الرجل في بطء شديد على جلد الزبون، وبعد أن ينتهي يزيل الرجل آثار الحفر كاشفًا عن رسمة كأحد النماذج المطبوعة على مجموعة من بلاطات القيشاني ومتراصة داخل إطار خشبي منها أبو زيد الهلالي والسفيرة عزيزة وكثير من الرسومات الشعبية في الريف المصري. وبعد منتصف الليل بساعات قليلة يفترش الناس أرض المولد لينالوا قسطًا بسيطًا من الراحلة ويستيقظون مع آذان الفجر يصلون ويرحلوا ولا يبقى سوى آثارهم وهو مولد وصاحبه غائب "وشي الله يا سيدي يا مبرز". وأمام مسجد سيدي المبرز تقع الترب وهي مقابر الحي تطل بشواهدها علينا طوال الوقت حتى تكاد أن تقترب منا، يظللها أشجار النبأ بثماره الحمراء وأشجار الصبار. وكثيرًا ما كان يخيل إلينا أن أرانب بيضاء عيونها حمراء تخرج علينا ليلًا من وسط المقابر حاملة أرواح الموتى تقف تنظر إلينا ثم تختفي ونحن الصبية نقسم لبعضنا البض أننا رأيناها. وكانت هذه الأرانب هي التي تمنع وتحد من خروجنا ليلًا بعيدًا عن الحي. وبعيدًا عن المقابر كانت توجد "تل بسطة" وهي منطقة أثرية يتوسطها "هضبة فرعون" وهي هضبة مرتفعة، كنا نتسلقها حتى نصل إلى قمتها مستمتعين بروح المغامرة. وكانت دائمًا تنتهي هذه المغامرة بالبكاء والصراخ.. كيف سنهبط من هذا الارتفاع الشاهق؟ كان الأمر ينتهي دائمًا بالنزول دون النظر إلى أسفل نقرأ بعض الآيات القرآنية وعلى لساننا "آخر مرة نطلع فيها هضبة فرعون".. وكانت توجد في تل بسطة بعض الآثار الفرعونية أشهرها تمثال فرعوني كان يمثل موروث شعبي عن العامة من الناس أنه يساعد المرأة على الحمل، عند خيوط الفجر تجد بعض النسوة حاملين أواني فخارية مملوءة بالماء يتحركون نحو التمثال ويؤدون بعض الطقوس الخاصة ثم يستحمون بالماء وبعدها يكسرون الآنية الفخارية على التمثال وهم يتمتمون ببعض الكلمات لكي يتحقق مرادهم. كان يحتضن الحسينية كثير من القرى والكفور والنجوع تبدو من بعيد كجزر وسط المزارع تتألف من بيوت فقيرة متواضعة وحولها جميع مظاهر الريف نخيل وسواقي وأشجار جميز وتوت ونذكر منها كفر أبو حسين وكفر أباظة وكفر العبيد والذي تغير اسمه بعد الثورة إلى كفر الأحرار. وعلى العكس تمامًا هناك حي السرايات يقطنه الباشوات وكبار الأعيان والأغنياء. وكان سور السوق يقف حائلًا بيننا وبين حي السرايات، كنا نقف بالساعات خلف هذا السور لا نستطيع تخطى هذا الحاجز، كنا نشاهد جميع مظاهر الحياة الفاخرة السيارات الفارهة والكاريتات التي تجرها الخيل والشوارع الفسيحة الواسعة يجملها أشجار ذات زهر أحمر جميل والقصور التي تتلألأ ليلًا والمنارة بالكهرباء عالم ساحر كما في الأفلام القديمة لأنور وجدي ولعلي مراد، وكانت أكثر اللحظات انتظارًا تلك التي نرى فيها الباشا مرتديًا زي الفروسية وممتطيًا صهوة جواده الأبيض يتربص ساعة العصاري بوجهه الأحمر وشاربه ولحيته البيضاء، وكان لا يربطنا بالباشا إلا شيء واحد فقط "سندوتش الباشا" وهو رغيف ساخن يؤخذ طازجًا من فرن الخبز تفرد عليه قطعة من الزبدة الفلاحي يرش عليه سكر وكان كفيل بأن يجعل وجوهنا ونضرة وحمراء مثل وجه الباشا. كان يلف كل هذه الأماكن طريق أسفلت كبير مضاء بالكهرباء يصل القاهرة بمدن القناة وكان يسمى طريق المعاهدة، وهو طريق نصت عليه معاهدة 36 وكان هذا الطريق يختلي فيه طلاب العلم ليلًا للاستذكار تحت أضواء أعمدته الكهربائية. كان الأصدقاء الثلاثة عبد المنعم وزكي وكامل يعملون في إدارة سوق الثلاثاء لحساب الحاج عشري أفندي ومحمد أفندي راتب وهما من الأعيان ومؤجرين السوق الثلاثاء وبعض الأسواق الأخرى في المحافظة. توطدت العلاقة بين الأصدقاء الثلاثة فتزوج زكي من رتيبة الأخت الكبرى لعبد المنعم وبعدها بعدة سنوات تزوج كامل من خيرية الأخت الصغرى. كان زكي أفندي شابًا وسيمًا متدينًا وميسور الحال تزوج رتيبة عن وأثمر هذا الزواج عن طفل سمي أحمد تيمنًا باسم سيدي أحمد الرفاعي وبعد سنتين زرقا بصباح فكانت الشقيقة الصغرى لأحمد، اشترى الأب بيتًا، واكتشف أن صاحب البيت باعه لاثنين من قبله فكان حزنه شديدًا ومرض ومات وكأن موته كان احتجاجًا على الظلم وفساد الذمم والأخلاق، فأتمت الأم رتيبة مصحف عم زكي لتجد في صفحاته وفي أوائل السور ورقات من فئة المئة جنيه، جمعت المبلغ ووضعته في يدي عم عبد القادر أحد أقارب عم زكي لينفق منه على الأم وولديها أحمد وصباح بواقع جنيه ونصف شهريًا، بالإضافة إلى كسوة الصيف والشتاء. أقامت الأم والأولاد أحمد وصباح في منزل العائلة الكبير، رأت ذات ليلة حلم غريب "خير اللهم ما أجعله خير".. جاءها زكي أفندي في المنام وطلب منها فردة الحذاء الصغير.. وألح زكي أفندي في طلبه.. فاقت الأم من الحلم ولم تجد له تفسيرًا إلا بعد عدة شهور حيث أصيبت الطفلة صباح بالحمى وتوفيت كأنها كانت هي المقصودة بفردة الحذاء الصغير. طلب الكثير من الشبان الزواج من رتيبة، والأم ترفض لأنها اختارت أن تكون بجوار ابنها أحمد متفرغة له.. حتى تقدم إليها رجل يطلب يدها.. رفضت الأم كالعادة، اكتأب الرجل ومرض، قام إخوته بتهديد الأم إما الزواج من أخيهم عطية أو خطف ابنها أحمد، خافت الأم وتزوجت من عم عطية واكتشفت أنه رجل حنون أحبها وأحب ابنها أحمد واحتضنهما معًا. وكان لوجود أحمد في بيت العائلة قبل زواج الأم أثر كبير في تعلقه بأفرادها فقد شملوه بكل الحب والعطف والحنان.. الجدة ألماظ وأخواله عبد المنعم وشعبان وفرج وصبري وخالته خيرية.. وطفل قريب من عمره اسمه سمير ابن خاله عبد المنعم. وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.