في الليالي الطويلة التي تزيّن سماءها النجوم والكواكب المضيئة، وفي القرى الصعيدية الفقيرة التي يلتحم فيها الغبار المتطاير بضوء الفوانيس، يرتفع صوت المنشد الصوفي، فينخرط الجميع في الحضرة، يرددون اسم الله، عبر طقوس تلهب النفس، وتصعد بالأرواح في "مدارج السالكين". إنه "ساقي الأرواح" و"أمير المنشدين"، المداح الصوفي وكبير شيوخ المنشدين بمصر والعالم العربي الشيخ أحمد التوني الذي استطاع بأدائه وتفوقه على نفسه، أن يحلق في سماء الموسيقي الروحية، وأن يسمو بالغناء الصوفي من المحلية إلى العالمية. عشق التوني ابن صعيد مصر مدح رسول الله وآل بيته الكرام، وبدأ مشواره الإنشادي ورحلته مع هذا النوع من الإنشاد قبل ستين عامًا من الآن، منذ أن كان طفلًا صغيرًا في الكتّاب، إذ كان يتسلل من حين لآخر إلى سهرات الصوفية فيحفظ كلماتهم، ويقلد أداءهم، وكان معجبًا بالعديد من المبدعين في هذا الفن من أمثال الشيخ أحمد حسّونة والشيخ الشبيطي والشيخ مرزوق، والشيخ القبيصي، تغني خلالها بكلمات كبار شعراء الصوفية مثل أبو العزايم وابن الفارض والحلاج. يقول التوني عن موسيقاه: "إنها تقرب المعني، وتطرب النفس وترقرق المشاعر" بمرافقة تخت موسيقي شرقي بسيط مكون من "الكمان والرق والناي" يعزفون وراءه وفقًا لما تهيم به نفسه ويفيض عليه من تجليات شعرًا وتنويعًا بين المقامات الموسيقية، والمتابع لحلقات الذكر والإنشاد التي يحييها التوني يجد أنه يميل أغلب الأوقات إلى الارتجال. ومن أشهر الأغاني التي قدمها التوني أغنية "الله محبة" والتي انتشرت انتشار النار في الهشيم بين أوساط المصريين من مسلمين ومسيحيين على حد سواء. الشيخ التوني له رؤية خاصة عن الموالد في مصر فهو يري أن مولد "السيد البدوي" هو المولد الوحيد الذي يحافظ على العادات والتقاليد التي تركها السادة والأولياء الصالحون خاصة طريقة "الدورة" وهي طريقة متبعة في الإنشاد الديني لدى بعض الطرق الصوفية. فقد عشق الشيخ التوني إحياء الليالي في الموالد وحلقات الذكر الخاصة بالسادة مشايخ الطرق في مدارجهم ومنهم: الشيخ الجندي والشيخ الرفاعي والشيخ الدسوقي والشيخ الجيلاني وغيرهم من أهل الله –على حد تعبيره. وقد استطاع المنشد الصوفي الكبير أن يمد جسور التواصل بين الثقافات العربية والغربية من خلال الأناشيد الصوفية التي تتغني بالحب الإلهي الطاهر، وإلى الشكوى من حرقة الفرقة والابتعاد عن الذات الكلية، كل ذلك في إيقاع جميل يتردد بين الابتهالات والتواشيح الدينية التي من خلالها أقام عدة حفلات إنشاد ديني في الكثير من المهرجانات في عواصم دول العالم الغربي منها مهرجان "فريبورغ" الدولي للموسيقى الروحية الذي احتضنته المدينة السويسرية. وعلى الرغم من اختلاف اللغة إلا أن التوني كان يرى أن لموسيقى إحدى التعابير الجوّانية ذات البعد الكوني التي لا يكون المستمع لها في حاجة إلى اللغة أو الكلمات لاستيعاب إيقاعها وإيحائها". رحل التوني عن عالمنا تاركًا إرثًا كبيرًا وبصمة بارزة في عالم وفن الإنشاد الديني، فقد وافته المنية صباح أمس الإثنين ليرحل عنا في هدوء نجم ساطع في سماء الذكر وتجليات الروح وصفو الأنفس وهيام الوجدان.