الخلط بين الدين والسياسة لا بد أن يؤدي إلى نشوء حكم “,”ثيوقراطي“,” ودولة دينية. وفكرة الحكومة الدينية، أو الدولة الدينية، التي تدعو إليها جماعات الإسلام السياسي لا بد أن تكون “,”دولة ديكتاتورية شمولية مطلقة“,”، تتحكم تمامًا في تفاصيل حياة الشعب والمجتمع، وليس لأحد أن يخالفها! كما لن يشارك في الدولة الدينية إلا من أظهر ولاءه، صدقًا أو رياءً، وأعلن موافقته غير المشروطة، وتأييده المطلق، لكل سياسات هذه الدولة الدينية! أيضًا، فكل المعارضين لهذه الدولة يتحولون -في تقدير السلطة الحاكمة– من موقع المعارضة المشروعة إلى موقع المعارضة للدين ذاته! كتب العلامة “,”ابن خلدون“,” في مقدمته الشهيرة : “,”منذ أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين، فإن الخلافة لم تقم إلا على أساس القوة والقهر، فالغلبة كانت عماد الخلافة ومرتكزها، وتاريخ الخلافة –بعد عهد الخلفاء الراشدين– لم يُكتب إلا بمداد من دماء المسلمين“,”! فكان الصراع على تولي الخلافة “,”صراعًا سياسيًّا“,”، واختلطت لأول مرة الأفكار الدينية بالأفكار السياسية؛ مما مكن لظهور الفرق والجماعات الإسلامية التي خلطت الدين بالسياسة! والتاريخ السياسي الإسلامي، حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان نموذجًا واضحًا للخلط الشديد بين الدين والسياسة! في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي، عاد شعار “,”الإسلام السياسي إلى الظهور في مصر على يد جماعة الإخوان المسلمين، واستمر وجودهم في الساحة السياسية حتي عام 1954، عندما أرادت الجماعة أن تختبر مدى قوتها؛ فاصطدمت بعنف مع القيادة السياسية آنذاك! وفي السبعينيات، عهد الرئيس السادات، خرجت جماعات الإسلام السياسي، بكل فصائلها ومسمياتها، لتملأ الشارع السياسي المصري، حتى انتهى ذلك العهد بمشهد “,”المنصة“,” التراجيدي! وانصهرت الخطوط الفكرية لكل جماعات الإسلام السياسي في توجه فكري واحد مشترك بينها جميعًا، جوهرُه: “,”تكفير الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والشعب المسلم؛ طالما كان غير منضم ومنفذ لتعاليم الجماعة! ومن يخرج عليها يخرج بالتالي من زمرة المسلمين ومن الدين والملة! ويلاحظ المؤرخ والباحث أن “,”الخطاب الإخواني“,”، في زمن الإمام “,”حسن البنا“,”، كان يحاول التوفيق ما بين صالح الدين ومصالح الدنيا؛ تأسيسًا على فرضية نظرية أن “,”الإسلام دين ودنيا“,” معًا. وإذا كان الخطاب الإخواني يقوم على تطبيق الشريعة بمحدداتها الأساسية في الفقة السياسة السني، فإن خطاب جماعات الإسلام السياسي الأخرى يقوم على نظرية “,”الحاكمية لله“,”، التي كان “,”أبو الأعلى المودودي“,” أول من صاغها في الفكر السياسي الإسلامي الحديث، منذ رفع الخوارج شعار “,”الحاكمية الإلهية“,” إبان واقعة التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وهناك تناقض أساسي بين النظريتين، فالنظرية الإخوانية تعتمد الإمام وكيلاً عن الجماعة ومسئولاً أمامها، في حين أن نظرية الحاكمية تعتمد الإمام نائبًا عن الله أو خليفة عن الله ، مسئولاً وحده أمام الله؛ مما يستدعي مفاهيم “,”الثيوقراطية الشيعية“,” لفكرة الإمامة! وهذه المرجعية الشيعية، تفسر -إلى حد بعيد- سرعة تلاقي فكرة “,”ولاية الفقية“,” مع “,”نظرية الحاكمية“,”، وتأثيرها على الخطاب التقليدى الإخواني؛ الأمر الذي قوض إلى حد كبير الحدود التقليدية المعروفة لكل من جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي المعاصرة، وجعل أسس الخطاب “,”المتطرف“,” بينهما واحدًا! وقد يتساءل البعض، أو يطرح السؤال نفسه: كيف اخترقت فكرة “,”الحاكمية الإلهية“,”، للمودودي، فكر جماعة الإخوان المسلمين؟ وكيف تفاعلت الجماعة مع نظرية الحاكمية؟ وما هي الظروف التي حكمت عملية التفاعل وملابساتها؟.. هذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في المقال القادم.