ليس مبالغة لو قلنا إن معظم دول العالم الثالث هي مجرد لعبة في يد كل من القطبين الكبيرين أمريكاوروسيا، وتحولت ل"حلبة ملاكمة" بينهما، حول طبيعة النظام العالمي الجديد الذي ترغب الدولتان في بنائه وتشكيله حسب الأهواء والمصالح. وتتسم اللعبة بالتنافس وأحيانا بالتعاون بينهما وبين بقية اللاعبين الدوليين مثل الصين إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا ما أثبته لنا الأزمتان السورية والأوكرانية. النموذج السوري: تتدخل أمريكا في سوريا فتقف لها روسيا بالمرصاد، تارة تتصدي الأخيرة للتهديدات الأمريكية "بالضربة العسكرية المحتملة"، ثم تحاول أمريكا والدول الغربية خلق فرصة جديدة لحل الأزمة السورية التي تحفظ لها مكانتها بإجراء مفاوضات جنيف 2، بينما تستمر موسكو في إفشال المفاوضات عن طريق تقوية قوات "بشار الأسد" في ساحة المعركة ليواصل القتل والتدمير بمنتهي العنجهية والغرور التي تجعله واثقا من أن الكرملين وراءه ويدعمه ويسانده. النموذج الأوكراني: أبرزت الاضطرابات التي تشهدها اوكرانيا خلال الايام القليلة الماضية، حدة الصراع الدائر بين روسياوأمريكا على مناطق النفوذ في العالم، والتي أعادت إلى الاذهان أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي قبل انهيار جدار برلين والكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق. كانت الشرارة المعلنة أمام العالم التي تبنتها المعارضة هي رفض الهيمنة الروسية والإصرار على الانضمام إلى أوربا، عندما رفض الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوربي في نهاية نوفمبر من العام الماضي، مفضلا مساعدات تقدر قيمتها 15 مليار دولار تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقديمها لأوكرانيا. وهنا تلقفت المعارضة من القوميون والمتطرفون هذا الاتفاق لتشعل الاحتجاجات، وكل ذلك تحت ستار "التحرر من الهيمنة الروسية "، وما جعل الوضع يزداد للأسوأ هو التدخل الأمريكي والأوربي في الشأن الاوكراني، هو الذي سارع من وتيرة التطورات السياسية في اوكرانيا ودفعها للانزلاق نحو العنف الذي اودى بحياة أكثر من ثمانين متظاهرا ورجل شرطة، وانتهت بهروب يانوكوفيتش، وهيمنت المعارضة على السلطة. واذا رجعنا بأذهاننا إلى الوراء قليلا نكتشف دور واشنطن في الأزمة الاوكرانية الذي ظهر جليا بعد تسريب مكالمة هاتفية بين مساعدة وزير الخارجية الاميركية فيكتوريا نولاند والسفير الاميركي في كييف جيفري بيات، حيث تلفظت الأولى بألفاظ بذيئة عن الاتحاد الأوربي وقالت "فليذهب إلى الجحيم " الدور السلبي الذي اضطلعت به واشنطن في الأزمة الاوكرانية، انكشف بعد تسريب فحوى اتصال هاتفي جرى بين، حيث حملت على ما وصفته بالدور السلبي للاتحاد الأوربي في التعامل مع الأزمة في اوكرانيا، وتلفظت بألفاظ نابية عن الاتحاد الأوربي، وقالت وفقا للتسجيل الصوتي الذي تم تسريبه:"ليذهب الاتحاد الأوربي إلى الجحيم "، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات لدى حلفاء اميركا في الاتحاد الأوربي". وعلي الرغم من الاحتجاجات كانت في العاصمة كييف، كان هناك الملايين من الشعب الاوكراني لا يوافق المحتجين، بل على العكس هناك من يتناقض معهم، على الأقل في الموقف من روسيا، وذلك نظرا لأن ذلك الجزء من الشعب يتحدث بالروسية ومتشبعا بالثقافة الروسية إلى حد كبير. وفي حين أن أوكرانيا مفلسة وتحتاج إلى مساعدات ب 35 مليار دولار خلال عامين، وموسكو تهدد كييف بالزيادة في رسومها الجمركية في حال التقارب مع أوربا، إلى أننا نجد أن المجتمع الدولي يهتم كثيرا بالشأن الأوكراني عن الشأن السوري، وهنا يجب أن نتسأل ما الذي يربط "كيييف بدمشق ؟ الإجابة تتلخص في أن أمريكا يسعي إلى سحب البساط من تحت أقدام روسيا في سوريا الذي من شأنه أن يحجم موسكو لاسيما أمام الثورات العربية التي قفز عليها الاسلاميين التي تخوض روسيا ضدهم حربًا قويا، فضلا عن أن الحلم الغربي في اوكرانيا لا يهدف فقط إلى الحاق اوكرانيا بالاتحاد الاوربي فحسب، بل يهدف، ايضًا، إلى ادخالها في حلف شمال الاطلسي. وهذا سوف يشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا. أما عن الكرملين الذي يسعي لفرض نفوذه، فذلك يعود إلى انهيار وسقوط ما كان يسمى ب "الاتحاد السوفياتي" سابقًا في عام 1991، حيث خسرت روسيا دورها الإستراتيجي في الشرق الأوسط، ولكن بوتين أراد أن يعيد لروسيا زعامتها، حيث بدأت في عهده استعاده دورها وفرض وجودها من جديد على الساحة الدولية. وازدادت مكانتها وتأثيرها في مجرى السياسة العالمية، ففي سوريا بعد أن تعمد بوتين إظهار "أوباما " بالمرتعش والمتردد أمام العالم حينما جنب سوريا الضربة العسكرية الأمريكية، كان ذلك له صدي دولي كبير كما وقفت موسكو بجانب "الأسد" بكل إمكاناتها الدبلوماسية والسياسية واللوجستية. وهكذا عادت روسيا لاعب رئيس وفعال في الأحداث العالمية. فكييف ليست عاصمة اوكرانيا فحسب، بل تعد جزءا من هويتها السياسية والاجتماعية والتاريخية، نظرا لوجود مصالح للكرملين في أوكرانيا بداية من كونها مقرا لأكبر قاعدة عسكرية روسية في الخارج، إلى خطوط أنابيب الغاز التي تدعم الاقتصاد الروسي لا تزال مجهولة وتحفل بالمخاطر نفسها. وتشير التكهنات أن "بوتين لن يستسلم بسهولة لمحاولة أمريكا بإشعال "كييف" وضمها للاتحاد الأوربي، فالصراع هنا هو من أجل بسط النفوذ وحماية المصالح لكن تجدر الإشارة إلى أن كِلا الدولتين يتّفقان على ضرورة منع بروز أي منافِس دولي قوي لهما.