كشف تسارع الأحداث التي تشهدها أوكرانيا، والأوضاع المتوترة التي تزداد حدة في شبه جزيرة القرم جنوباً حيث يتمركز الأسطول الروسي بميناء سيفاستوبول بالبحر الأسود، عن حدة الصراع الدائر بين روسياوأمريكا علي مناطق النفوذ في العالم. الاحتجاجات التي اشتعلت في العاصمة كييف، كانت في الظاهر، رفض الريئس يانوكوفيتش، المعزول، التوقيع علي اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في نهاية نوفمبر من العام الماضي، مفضلاً مساعدات تقدر قيمتها 15 مليار دولار تعهدت موسكو بتقديمها. أما ما يمكن قراءته بين السطور، ووفقاً لبعض الصحف البريطانية والأمريكية، هو وجود لعبة من واشنطن وأجهزتها الاستخباراتية، كجزء من حربها الباردة مع موسكو، لعرقلة هذه الاتفاقية وتحقيق عدة مكاسب بضربة واحدة. فالإدارة الأمريكية تعلم جيداً عدم قدرة أوروبا علي تقديم الدعم المالي لأوكرانيا؛ وهو ما أعلنته صراحة كاترين أشتون، الممثل الأعلي للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والأمنية، التي اكتفت فقط بإعطاء الوعود. وبذلك يكون أول فائدة تعود علي واشنطن بعد أن استطاعت توريط القارة العجوز في الأزمة الأوكرانية، ومن ثم إبعاد خطر اليورو عن الدولار من دون تقديم دعم مباشر. وتأكيداً لذلك، فضيحة المكالمة الهاتفية بين " فيكتوريا نولاند" مساعدة وزير الخارجية الأمريكي مع سفير واشنطن في كييف "جيفري بيات"، حيث كان الحديث حول مطالب المتظاهرين ذات الصبغة الاقتصادية وشروط الاتحاد الأوروبي وظروفه لضم أوكرانيا، فكان جواب المسئولة الأمريكية، بأن "ليذهب الاتحاد الأوروبي إلي الجحيم."، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات لدي حلفاء الولاياتالمتحدة. ثانياً، المعارضة في كييف، المدعومة من أمريكا وأوروبا، تلقفوا رفض يانوكوفيتش لاتفاق الشراكة مع الغرب، فأشعلوا الميادين لضياع حلم الشعب الأوكراني الذي عاش علي أمل الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، رافعين لافتات ترفض هيمنة بوتين "ارفع يديك عن أوكرانيا"، وأخري طالبت بتنحي "يانوكوفيتش" عن الحكم، وبذلك، يتم تصوير التدخل الروسي في الأحداث الداخلية، علي أنه انحياز واضح للرئيس المعزول، ومن ثم ضربة للمصالح الروسية في أوكرانيا. وكان هناك عدة وقائع تدل علي الدعم الصريح الواضح من جانب واشنطن للمعارضة الأوكرانية. الأولي، وقوف السيناتور الجمهوري "جون ماكين" في ساحة "الاستقلال" وسط المتظاهرين في أوكرانيا خلال المواجهات وهو يهتف مستخدماً اللغة الأوكرانية: "أمريكا معكم.. سلام لأوكرانيا وسلام للميدان". والثانية، تتمثل في اللقاءات المستمرة بين الجانب الأمريكي والمعارضة في كييف خلال فترة الأزمة وربما قبلها بفترة طويلة، حيث تنشط جماعات يمينية موالية للغرب في البلاد منذ سنوات وتطالب بانضمام البلاد كليةً إلي الاتحاد الأوروبي والغرب. وقد كان هذا الدعم أثناء لقاء وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بزعماء المعارضة الأوكرانية علي هامش المؤتمر الأمني بميونخ الألمانية. والفارق الذي يميز الموقف الأوروبي عن الموقف الأمريكي، هو حذر أوروبا في التعامل مع أوكرانيا، لمعرفة الأوروبيين بطبيعة سكانها، وهي طبيعة قد تتحول إلي قنبلة يمكن أن تنفجر بكل مخططاتهم، إلا أن الإدارة الأمريكية، وفي إطارحربها الباردة مع روسيا، لم تأخذ هذه النقطة بنظر الاعتبار، وتري في الساحة الأوكرانية، فرصة سانحة لكسب نقاط علي حساب روسيا، يمكن أن تعوضها ما خسرته في سوريا. ففي الوقت الذي يوطد فيه قادة أوكرانيا الموالون للغرب أركان السلطة في كييف عقب عزل يانوكوفيتش، تتزايد المخاوف من أن القرم التي يسكنها أكثر من 58% من أصل روسي، قد تصبح هدفاً لطموحات بوتين وتنامي التوجهات الانفصالية فيها علي نطاق واسع. ونشرت تقارير بأن موسكو تخطط لتسهيل منح سكان القرم جوازات سفر روسية. فعلي عكس واشنطن يميل الاتحاد الأوروبي، وعلي رأسه ألمانيا، إلي عدم استفزاز موسكو وإيجاد الخلافات بين الطرفين. فتعي أوروبا جيداً أهمية أوكرانيا بالنسبة لها، فهي الجدار الفاصل بين روسيا ودول أوروبا الشرقية حيث يعبر من أراضيها 80 % من الغاز الطبيعي الروسي الذي يشكل ربع الاستهلاك الأوروبي للطاقة. لذلك ظهر واضحاً التعامل الهادئ للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ف"برلين" تعرف أن المعارضة الأوكرانية ليست بالتنظيم القادر علي تغيير موقع روسيا القوي في البلاد، بالإضافة إلي معرفتها بفساد هذه المعارضة بعد تجربة ثورة "البرتقالية" في 2004 والمتغلغل أيضاً في أجهزة الدولة. ليس ذلك فقط، إنما تتوحد المصالح والعلاقات الاقتصادية بين برلينوموسكو وراء هذه الخلافات السياسية، حيث يتم تصدير الغاز الروسي إليها عبر خط لنقل الغاز من شمال غرب روسيا إلي ألمانيا تحت البحر. وتتضح المحاولات الأمريكية إلي ضرب المصالح الروسية في تصدير الغاز، التي تعد جزءا من الأهداف السياسية وحربها الباردة ضد موسكو، وقد قوي هذا الاتجاه مع زيادة إنتاج الولاياتالمتحدة من الغاز من خلال صخور وكفاية الحاجات المحلية لاستهلاك الغاز من الإنتاج الأمريكي، وبدء التحضير لإنجاز مرافق تسييل الغاز وتصديره بدءاً من سنة 2017. ومنذ اندلاع الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004 تلعب واشنطن بكل أوراقها التي يمكن أن تجبر الروس علي تغيير حساباتهم في التعاطي مع الملفات العالقة من أجل إفهامها أن مصلحتها تكمن في الوقوف إلي جانب أمريكا والقبول بالجلوس علي طاولة المفاوضات والتوصل لحل يرضي طموحات واشنطن أولاً. فقد سيطر علي الحكم في أوكرانيا حكومة موالية للغرب، وباتت كييف من مناطق النفوذ الأمريكية المهمة وشكلت خطاً دفاعياً للأمريكان عن دول أوروبا الشرقية. وفي تلك الفترة توترت العلاقات الروسية مع أوكرانيا بعد سعي حكومة الأخيرة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، ورغبتها أيضا في إنهاء اتفاقية وجود الأسطول العسكري الروسي علي شواطئها، واختلفت مع موسكو حول أسعار الغاز الذي يمر بأراضيها إلي أوروبا. واستمرت حالات التوتر حتي عام 2010 حيث فازت بالانتخابات حكومة موالية للكرملين بقيادة "يانوكوفيتش" الذي قام بتوقيع العديد من الاتفاقيات مع موسكو في مجال الطاقة، وعمل علي تطوير العلاقات الثنائية في كافة المجالات، ووعد بتمديد اتفاقية بقاء الأسطول العسكري الروسي مقابل تخفيض أسعار الغاز الطبيعي الروسي. ومن هنا اتهمت المعارضة الرئيس الأوكراني المعزول وحكومته ببيع البلاد لروسيا من خلال اتفاقات تهدف إلي ضمها إلي الاتحاد الجمركي للجمهوريات السوفييتية السابقة بقيادة روسيا الاتحادية. فمن المعروف أن الحكومة المقربة من موسكو وقتها، فازت في الانتخابات الأخيرة بفارق 3 % من الأصوات، ما يشير إلي توازن القوي بين المجموعات المؤيدة لموسكو والمجموعات الموالية للغرب. وترفض روسيا بشدة أن تعبث الولاياتالمتحدة بأي من الدول التي يمتلك فيها الروس مصالح. ولن تسمح لها بإلحاقها هزيمة في كييف ومن ثم تقضي علي حلم الدب الروسي باستعادة أمجاده، وإحياء الاتحاد السوفيتي من جديد، مايعني ببساطة اعتدال ميزان القوي العالمي مرة أخري، من خلال إقامة منظومة من الدول المتعاونة اقتصادياً واتحاد جمركي للجمهوريات السوفياتية السابقة بقيادة روسيا الاتحادية. بعد أن استيقظ العالم في ربيع العام 1991 علي نبأ الانهيار "الفعلي" للاتحاد السوفيتي السابق، وتفتته إلي عدة دول وجمهوريات.. ما وصف وقتها بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، أدت بلاشك إلي الإعلان عن عالم القطب الأوحد بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وتعتمد روسيا علي قاعدة لها في ميناء سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم، ليست سيفاستوبول سوي عنوان أول للمصالح الكبري لموسكو في أوكرانيا؛ فبالإضافة إلي أن هذا البلد هو ممر الغاز الروسي إلي أوروبا، فإن التاريخ المشترك، والدين واللغة والثقافة، كلها مجالات للنفوذ الجيوسياسي للاتحاد الروسي لا يمكنه التراجع عنها في خطة صعوده الحالي، ما يجعل أوكرانيا ساحة صراع مديد بين موسكو والغرب. وبرغم ذلك، إلا أن موسكو يمكنها التخلي عن ميناء سيفاستوبول إذا اقتضي الأمر؛ فمع التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008 أتاح للروس إنشاء قاعدة بحرية أو أكثر في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية علي البحر الاسود. وأيد مجلس الاتحاد الروسي بالإجماع، يوم السبت الماضي، طلب بوتين بالتدخل العسكري علي الأراضي الأوكرانية حتي عودة الاستقرار السياسي والاجتماعي إلي هذا البلد. وفي السياق ذاته أكد المكتب الصحفي للكرملين في بيان، فإن هذا القرار جاء وفق اتفاقية دولية، علي أراضي أوكرانيا واستنادا للبند "ج" للجزء الأول من المادة 102 من دستور روسيا الاتحادية. فيما توجه نائب زعيم "حزب الأقاليم" الأوكراني، الحاكم سابقاً، سيرجي تيجيبكو إلي موسكو طالباً إجراء محادثات حول التسوية السلمية للوضع. وبرغم ذلك يظل السؤال: إلي أين ستذهب أوكرانيا؛ إلي الاستقرار في إطار من وحدة البلد، أم تتقاسمها روسياوالولاياتالمتحدة وأوروبا ويظل شعبها حائرا أم إلي الحرب الأهلية والتدخل الروسي مثل جورجيا؟ وهل ستكون دولة تابعة للاتحاد الأوروبي أم لروسيا الاتحادية؟